استعمالات "أنت عمري" لأم كلثوم: الديني و"الخليع"

محمد حجيري

الجمعة 2016/07/08
ما الذي يجمع بين أم كلثوم المصرية، وزهافا بين الإسرائيلية، وشاكيرا الكولومبية، وبيونسي الأميركية، والداعية الجفري... ربما لا شيء سوى أغنية "أنت عمري" التي كتبها أحمد شفيق كامل ولحنها محمد عبد الوهاب وغنتها أم كلثوم، وصارت أقرب إلى "الأغنية الأسطورة"، وآخر أخبارها أن بيونسي رقصت على إيقاعها بطريقة ايروتيكية تعتبر "استفزازية" و"خليعة" بالنسبة إلى جمهور "ثومة"...

من أين نبدأ في مقاربة هذه الأغنية التي "يتناتشها" الكبار والصغار؟! كل واحد يريدها على طريقته أو صورته أو لغته أو جسده أو عقله، فهي بين الرقص الشرقي والأجنبي وموسيقى الميتال، بين المحافظة على أصالتها الشرقية وتقديمها بتوزيع جديد ومختلف، وهي أيضا بين من يقدمها مقلداً صوت ثومة أو من يؤديها بطريقة هابطة وركيكة. والأغنية الشهيرة كانت حكاية من البداية، امتزجت فيها عبقرية الصوت بالتجديد الموسيقي وكواليس السياسة، ففي سنة 1964 تم لقاء القمتين أو "لقاء السحاب" كما سمي، بين الموسيقار محمد عبد الوهاب والسيدة أم كلثوم في أول عمل فني هو "إنت عمري"، وانتهت بذلك عقود طويلة من المنافسة بينهما، بين الموسيقار الارستقراطي والفنانة الآتية من أصول فلاحية. جاء اللقاء بعد انكفاء الموسيقار عن الغناء في المسارح، واقتصر نشاطه الفني على تسجيل أغانيه في الأستديو، كان لديه دائماً أغنية جديدة، ويستعد لتسجيلها، لم يكن "لقاء السحاب" لا عفوياً ولا مخططاً له. باختصار القصة بدأت عندما زار عبد الوهاب عازف الكمان أحمد الحفناوي، وكان قادما من بيت أم كلثوم للتو، عبدالوهاب كان قد صنع لحن اغنية "أنت عمري" ليغنيه، وبعد أخذ ورد وقيل وقال، وتدخل عبد الناصر وتمنياته حصل اللقاء والتعاون وانجزت الأغنية بصوت أم كلثوم...

أدخل عبد الوهاب آلة الغيتار الكهربائي لأول مرة في أول لقاء فني مع أم كلثوم التي ترددت كثيراً في تقبل فكرة إدخال الآلة الكهربائية ذات الطابع الغربي ضمن فرقتها الموسيقية، وذلك لحرصها على "أصالة الموسيقى الشرقية"، غير أن الموسيقار أقنعها بضرورة مواكبة التجديد... وقد تم لعبد الوهاب ما أراد، فكان لافتاً أن يطلب الجمهور إعادة مقطع من أغانيها لا تغنى فيه كوكب الشرق بل تعزف فيه الموسيقى فقط، بمعنى آخر اخذت الموسيقى حقها والموسيقار لم يكن مجرد هامش في أغنية، وكان للصوت مكانته المتعالية، هي معادلة الأغنية المكتملة بالصوت واللحن والكلمة، وفي تحليل ذلك الموقف يقول موسيقار الإسكندرية محمد عفيفي، وكان صديقا لعبد الوهاب: "كان عبد الوهاب يخشى صوت أم كلثوم وكانت أم كلثوم تخشى ألحان عبد الوهاب، هكذا بدت الصورة التي استمرت عشرات السنين، لم يكن هناك أي شك في نجاح عمل يتمه الاثنان معا لكنها غيرة الفنان، يخشى الملحن أن ينسب نجاح اللحن لصوت المطربة الكبيرة، وتخشى هي أن تغطى موسيقى الملحن الكبير على صوتها، وهكذا دار الاثنان في حلقة مفرغة"...


لاقت "إنت عمري" نجاحا منقطع النظير إلى درجة أصبحت كليشيه مملة في بعض الأحيان لكثرة الاستعمالات العشوائية. ففي العقدين الماضيين كانت نجمة في الكثير من المقاصف والمنتجعات السياحية وبرامج الهواة بأصوات من كل حدب وصوب، أصوات جيدة وأصوات تمسخ الأغنية وتجعلها في الحضيض، وعشرات الراقصات الشرقيات رقصن على ايقاعها من صافيناز الى آخره، دون أن ننسَ العزف والتوزيع الجديد للأغنية الذي أتى بـ"روحيات" مختلفة، سواء فرقة "خلص" التي أدتها بطريقة الميتال، وصولا إلى نافورة دبي حيث "ترقص" المياه على أيقاع اللحن... ووصل السطو على الأغنية الى المنتجعات والمسارح الإسرائيلية، غنتها سيريت حداد، وزهافا بين، واعتبرت الأغنية العربية الأولى التي اخترقت "الوعي الإسرائيلي" على ما يقوله الديبلوماسيون الإسرائيليون...




وادخلت شاكيرا "أنت عمري" في الفضاء الثقافي المعولم، استعملتها كجزء من تنويع حفلاتها، ففنها خليط من السالسا والرقص الشرقي مع صوت قوي وألحان مختلفة، وقد أصبحت ظاهرة غنائية لاتينية عالمية بجذور شرقية وعربية. لم يكن استعمال شاكيرا الأغنية الكلثومية مستفزا بل محبباً، هو أشبه بحوارية أنماط ولغات وآداء، أشبه بلغة أجساد على المسرح، يجلس جمهور أم كلثوم مصغيا للصوت هائما في مناخات الحبيب الغائب، يصغي لفضاء غير محسوس. ربما عبر عن هذا الواقع مقال إسماعيل فايد "نظرية الأداء، ونظرة لأم كلثوم وويتني هيوستون"، حين قال: "لم تخترع أم كلثوم للعالم العربي مفهوم السلطنة مطلقاً، لكنّها أعادت صياغة المفهوم وطرق استقباله من قبل الجمهور وطرق قياس مدى نجاح أي مؤدي للوصول إلى السلطنة، حتى تم تفريد نوع مخصوص من السلطنة باسمها (سلطنة كلثوميّة) لأنها لا تندرج، لا من ناحية الأداء أو من الناحية الموسيقيّة، تحت طرق وأساليب السلطنة المعتادة قبلها أو في عصرها"...

شاكيرا نمط آخر مع الجمهور، هي توقظ الجمهور من "أفيونه"، سواء بصوتها أو رقصها أو موسيقاها، اختيرت لتغني في افتتاح أكثر من مونديال رياضي، تتحكم بحركات اعضاء جسدها، توقظ الخيال وهي تنظر في عيون جمهورها، هي الفاتنة التي تجعل لهز الارداف معنى مختلف، تخفف من مغناطيسيته لصالح إيقاعيته، هي مغنية لجمهور راقص أو يبحث عن ذاته.


أما المغنية بيونسي فاستعملت الأغنية في إطار فج اذ جاز التعبير، فهي اقتبست الموسيقى لا لتقدم الرقص الشرقي بل لتبدو أنها تمارس نوعا من "الخبب" (نسبة الى خبب الحصان) الجسدي. راقصات باجساد ممشوقة، ومؤخرات شبه عارية، وممتلئة، يمارسن الرقص الذي يقترب من الستربتيز، بأقصى حرية وبوقع ايروتيكي يجعل من ينظر الى الصورة أو المسرح ينسى الموسيقى... قيل ان "أنت عمري" تتحدث عن وقوع امرأة في الحب وخوفها من الألم الذي قد يسببه لها فقدان الحبيب، بينما اغنية "Naughty Girl" لبيونسي فهي تتحدث عن امرأة تستخدم جسدها من أجل إسعاد حبيبها. شيء ما في غناء بيونسي ورقصها يوحي بتمزيق "أنت عمري"، تمزيق يبدأ بلغة الجسد المؤخرتية، صخب الجسد أو الأجساد يمزق الموسيقى، اللغة البصرية تطيح باللغة السماعية، بل إن الجسد الراقص في أغنية بيونسي يتحول أسير ايقاع مؤخرته...


ولا تنتهي استعمالات "أنت عمري" عند هذا الحد، فما هو نقيض بيونسي يتمثل في الداعية الإسلامي الحبيب علي الجفري، إذ "فاجأ" جمهوره بالقول إن أغنيتي "أنت عمري" و"أمل حياتي" غنتهما ثومة حباً في النبي محمد. وقال الجفري إنه خلال تواجده في مصر وأثناء ركوبه أحدى المواصلات العامة سمع أغنية "أنت عمري" وأعجب بكلاماتها بشدة لدرجة جعلته يبكي بحرقة. وأضاف ان أحمد شفيق كامل أعترف له أنه "أنت عمري" و"أمل حياتي" كتبهما حباً في الرسول. لا غرابة أن يقول الداعية هذا الكلام؛ هي السريالية في التعاطي مع أغنية كلاسيكية، بين تصويرها في مشهد خليع ومثير وبين اعتبارها اغنية دينية، تبقى أم كلثوم هي الأساس، مهما تناتشوا الأغنية الشهيرة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024