التضحية بإسحاق أم بإسماعيل؟

محمود الزيباوي

الثلاثاء 2020/08/04
كما في كل عام، احتفل المسلمون بالعيد الكبير في اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو اليوم الذي يضحي به الحجاج فيه بذبح الهدي، ولذلك سمي بعيد الأضحى. وتتمثل الحكمة من مشروعية الأضحية في إحياء سُنّة نبي الله إبراهيم، الذي أمره الله بذَبْح ابنه، فاستجاب لهذا الأمر، ففداه الله بكبش عظيم، وكان ذلك في يوم الأضحى.
 
ترد قصة تضحية ابراهيم في القرآن الكريم بشكل مختصر في ست آيات قصيرة من سورة الصافات لا يُذكر فيها اسم الذبيح بشكل صريح: "وقال إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين، رب هب لي من الصالحين. فبشرناه بغلام حليم. فلما بلغ معه السعي، قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك، فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين. فلما أسلما، وتلّه للجبين. وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدقت الرؤيا، إنا كذلك نجزي المحسنين. إنَّ هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبحٍ عظيم" (99 -107). 

أحدث غياب اسم الابن المضحّى به سجالاً بين المفسرين، فأكدت فرقة منهم أنه اسحاق، وجزمت فرقة أخرى أنه اسماعيل، وقد استند كل من الفريقين الى أحاديث تؤكد صحة رأيه. وظلّت فرقة ثالثة منهم على تردد بين الاثنين، ولم تجزم في التفسير، ويظهر هذا الموقف على سبيل المثال في "تفسير الجلالين" حيث الذبيح "هو إسماعيل أو إسحاق". بالرغم من ذلك، تقدمت صورة اسماعيل الذبيح في المعتقد الجاري بين المسلمين، وتجذرت في الذاكرة الجماعية بحيث أصبحت من الثوابت الراسخة.

في القرن الرابع عشر، كتب ابن خلدون في "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر": "ابتلى الله إبراهيم بذبح ابنه في رؤيا رآها وهي وحي. وكانت الفدية، ونجى الله ذلك الولد كما قص في القرآن. واختُلف في ذلك الذبيح من ولديه، فقيل اسماعيل وقيل اسحاق، وذهب إلى كلا القولين جماعة من الصحابة والتابعين". في القرن الثالث عشر، كتب القرطبي في تفسيره: "اختلف العلماء في المأمور بذبحه. فقال أكثرهم: الذبيح إسحاق"، وذكر من هؤلاء سبعة من الصحابة، وهم تباعاً "العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله"، عبد الله بن مسعود، جابر بن عبد الله، علي بن أبي طالب، عمر بن الخطاب وابنه عبد الله. كما ذكر ستة عشر اسما من التابعين وغيرهم، "كلهم قالوا: الذبيح إسحاق. وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى". وأضاف: "وقال آخرون: هو إسماعيل. وممن قال ذلك أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة. وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس أيضا، ومن التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وعلقمة".   

ناصر البعض اسحاق، ورفع البعض الآخر لواء اسماعيل، وثمّة من قال إن الافتراضين قائمان. في الشعر، بدا الفرزدق من أنصار إسحاق الذبيح، وتجلّى ذلك في قوله في قصيدة مدح فيها الأمير الأموي معاوية بن هشام في القرن الثامن:
أرجو الدعاءَ من الذي تلّ ابنه/ لجبينه، ففداه ذو الإنعام 
إسْحَقُ حيث يَقول لمّا هابه/ لأبِيه، حيث رأى مِن الأحلام
أمضِي، وصدِّق ما أُمِرتَ فإنّني/ بالصبر مُحتَسِباً، لَخَيرُ غلام

وفي الأدب، في القرن التاسع، في عهد الخليفة العباسي أبو جعفر محمد المنتصر بالله، تبنى الجاحظ موقف الفريق الذي قال بأن الافتراضين قائمان، وتجلّى ذلك في قوله في كتاب "الحيوان": "وقد أمر اللّه تعالى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، بذبح إسحاق أو إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، فأطاع الوالدُ وطاوع الولد".

في القرن العاشر، نقل الحاكم النيسابوري في "المستدرك على الصحيحين" عن عبد الله بن سعيد الصنابحي حديثاً طويلاً يؤكد من جهة بأن الذبيحة هو إسماعيل، ويعطي القصة من جهة أخرى بعدا عربيا محليا خالصا. يقول هذا الحديث: "حضرنا مجلس معاوية بن أبي سفيان، فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق بن إبراهيم، فقال بعضهم الذبيح إسماعيل، وقال بعضهم بل إسحاق الذبيح، فقال معاوية: سقطتم، على الخبير كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه الأعرابي فقال: يا رسول الله خلفت البلاد يابسة والماء يابسا، هلك المال وضاع العيال فعد علي بما أفاء الله عليك يا بن الذبيحين. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، فقلنا: يا أمير المؤمنين وما الذبيحان؟ قال: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الله أمرها أن ينحر بعض ولده، فأخرجهم فأسهم بينهم فخرج السهم لعبد الله فأراد ذبحه، فمنعه أخواله من بني مخزوم وقالوا: أرض ربك وافد ابنك، قال. ففداه بمائة ناقة، قال، فهو الذبيح وإسماعيل الثاني".

يختصر هذا الحديث رواية طويلة تزاوج بين النثر والشعر سجّلها في القرن الثامن الأمام محمد ابن إسحاق، أوّل من ألف السيرة النبوية في "المبتدأ والمبعث والمغازي". تقول هذه الرواية ان عبد المطلب بن هشام نذر إن رُزق عشرة من الأولاد الذكور أن "ينحرن أحدهم لله عز وجل عند الكعبة"، ولما اكتمل من الأبناء عشرة قرّر أن يحقّق نذره، فجمع أولاده، وهم "الحارث، والزبير، وحجل، وضرار، والمقوم، وأبو لهب، والعباس، وحمزة، وأبو طالب، وعبد الله"، و"أخبرهم بنذره الذي نذر، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك". لجأ الأب إلى القرعة لاختيار كم ينحر من أبنائه العشرة، فخرجت القرعة على أصغرهم وأحبّهم إلى نفسه، وهو عبد الله، "فاخذ عبد المطلب بيده، وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى إساف ونائلة، الوثنين اللذين تنحر عندهما قريش ذبائحها، ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها، فقالوا: ماذا تريد يا عبد المطلب؟ فقال: أذبحه"، فأنكروا عليه فعله مخافة أن يقلده الناس، و"ذكروا أن العباس بن عبد المطلب اجتره من تحت رجل أبيه حتى خدش وجه عبد الله خدشاً، لم يزل في وجهه حتى مات". 

بعد سجال طويل، أقنع رجال قريش عبد المطلب أن يحتكم إلى عرافة تدعى سجاح، وقالوا له: "أنت على رأس أمرك، فإن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بغير ذاك مما لك وله فيه فرج قبلته". وافق عبد المطلب على هذا الاقتراح، ووجد العرافة في خيبر، فقصّ عليها "شأنه وشأن ابنه وما كان نذر فيه"، فاستشارت تابعها، واقترحت عليه أن يجري قرعة بين عشرة من الإبل وبين عبد الله، وأن يزيدها عشرة أخرى إذا خرجت قرعة عبد الله، وهكذا حتى تخرج قرعة الإبل. ظلّ عبد المطلب يزيد في الإبل عشرة تلو عشرة، والقرعة تخرج باسم ابنه، وهو يدعو ربّه بأبيات من الشعر. وحين وصل عدد الإبل مئة، خرجت قرعة الإبل، فقدمها عبد المطلب إلى الذبح، "فنُحرت، ثم تُركت لا يُصدّ عنها أحد".

بحسب هذه الرواية، كان الذبيح الأول إسماعيل، وقد فداه الله بكبش عظيم، هو بحسب الأخبار التي تناقلها العلماء الكبش الذي قرّبه هابيل بن آدم. وقيل إنه كان "أبيض أقرن أعين"، وإنه رعى في الجنة أربعين سنة. كما قيل إنه كان بمنى في المنحر. وقيل أيضا أنه أُهبط من ثيبر، وإن رأسه علّق بقرنيه في ميزاب الكعبة. أما الذبيح الثاني فكان عبد الله بن عبد المطلب، وقد نجا حين خرجت قرعة الإبل، فأمر عبد المطلب بذبحها، ولم يبق بيت من بيوت مكة إلا وأكل من هذه الذبائح. 

قيل الكثير في هذه الإبل التي ضحى بها جد الرسول، ونقل ابن سعد في "الطبقات الكبرى" رواية تقول: "لما نحرها عبد المطلب خلى بينها وبين كل من وردها من انسي أو سبع أو طائر، لا يُذبّ عنها أحدا (أي لا يُمنع)، ولم يأكل منها هو ولا أحد من ولده شيئاً".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024