ميلاد المسيح في إنجيل الطفولة العربي

محمود الزيباوي

الخميس 2020/12/24
لا يحتل ميلاد المسيح حيزاً كبيراً في الإنجيل. يقدّم كلٌّ من متّى ولوقا روايتين لهذه الطفولة في الإصحاحين الأولين من إنجيليهما، أما مرقص ويوحنا فلا يقولان شيئاً عنها. يستهلّ متّى إنجيله بعرض نسَب يسوع، وحبَل مريم من الروح القدس، مشدّداً على شك خطيبها يوسف، ثم ينتقل إلى خبر ولادة يسوع في بيت لحم وقدوم المجوس وسجودهم له بعدما قادهم إليه نجم رأوه في المشرق. أمّا لوقا، فينقل رواية تزخر بأخبار لا يأتي متّى على ذكرها. يغيب المجوس تماماً عن هذه الرواية، ويحضر الرعاة الذين يحمل إليهم ملاك الرب خبر ولادة المخلّص.

في المقابل، نقع على أخبار أخرى خاصة بالميلاد، في ما يُعرف بأناجيل الطفولة، وهي أناجيل "غير قانونية" لا تعترف بها الكنيسة، وتصفها بـ"المنحولة"، ومنها انجيل يُعرف بـ"انجيل الطفولة"، يعود إلى القرن السادس بحسب أهل الاختصاص، ولغته الأساسية سريانية، ومنها نُقل إلى العربية في روايات عديدة. وصلنا من هذا الانجيل عدد من النسخ، أشهرها نسخة نُشرت مع ترجمة لاتينية في العام 1697، وهي اليوم محفوظة في مكتبة بودلي الخاصة بجامعة أوكسفورد. وتملك المكتبة اللورنتية في فلورنسا، نسخة مزوّقة من هذا الانجيل تحوي مجموعة من المنمنمات، أُنجزت في ماردين سنة 1299، وتتميّز بمقدّمة طويلة تتحدّث عن زرادشت، مؤسّس الديانة التي تحمل اسمه في القرن الحادي عشر قبل المسيح.

يقول الراوي في مطلع هذه المقدمة: "بسم الله الرحمن الرحيم. كان على عهد موسى النبي عليه السلام رجل اسمه زرادشت، وهو الذي أظهر علوم المجوسية". ثم ينقل رواية تقول ان زرادشت كان جالساً ذات يوم يعلّم الناس، وفيما هو يتحدّث إليهم، بشّرهم بأن العذراء ستحبل من غير رجل، ومن غير ان يُفضّ خاتم العذرية، وان بشارة مولودها ستبلغ "أقاليم الأرض السبعة". ثم أضاف: "فأما دلالة ميلاده، فإنكم ستبصرون في المشرق كوكباً أبهى من نور الشمس والكواكب التي في السماء، على أنه ليس بالكوكب، بل ملَك من الله، فإذا رأيتموه فاعملوا على المسير إلى بيت لحم، واسجدوا تجاه الملَك المولود، وقرّبوا قرباناً، والكوكب يكون دليلكم عليه". في المنمنمة التي ترافق هذا النص، نرى زرادشت رافعا ذراعه في اتجاه رجلين معمَّمين يجلسان أرضاً، رافعين أيديهما في اتجاه الفم، في حركة ترمز إلى الدهشة والحيرة. ويغلب على هذا المشهد طابع التصوير العباسي، وأبلغ دلالاته الهالات التي تحيط برؤوس كل الحاضرين، وذلك بخلاف التقليد البيزنطي الذي جعل من الهالة تعبيراً عن القداسة. 

تتقاطع هذه المقدمة مع خبر ميلاد المسيح، وفقاً للرواية التي وردت في الإصحاح الأول من انجيل متى، وفيها يظهر ملاك الرب ليوسف في حلم، ويقول له: "لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس، فستلد ابناً وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم. هذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا". كذلك، يشير الحديث عن الكوكب المتلألئ في الشرق، إلى زيارة المجوس الذي جاؤوا للسجود للمسيح بعدما رأوا "نجمه في المشرق"، كما جاء في الآيات الأولى من الفصل الثاني من هذا الانجيل.

ينتقل الراوي إلى خبر سَفَر يوسف، من الجليل إلى بيت لحم، مع خطيبته مريم وهي حبلى، وذلك بعدما أصدر الحاكم أغوسطس قيصر الأمر بأن يتم تسجيل كلّ مواطن في مدينة مولده، ويتقاطع هذا الخبر مع الرواية التي ترد في مطلع الفصل الثاني من انجيل لوقا، غير انه يحمل تفاصيل جديدة. يقول يوسف لخطيبته مريم: "ما لي أراك معبّسة (أي عابسة) ومستبشرة"، فتجيبه: "إني أرى حالَين مختلفين عجيبين. أرى آل إسرائيل باكين حزينين يشبهون الأعمى الذي هو في الشمس، لا يلتذّ بنورها، وأرى الشعوب الغريبة جلوساً في الظلمة وقد طلع عليهم النور وهم جذلون مسرورون كالأعمى الذي قد انفتحت عيناه". بعد ذلك مباشرة، تقول مريم ليوسف إن زمن ولادتها قد حان، وتدعوه للذهاب إلى مغارة قريبة، "وهذا كان عند غروب الشمس". في المنمنمة التي تصوّر هذا المشهد، تظهر مريم على ظهر حمار وهي تبسط ذراعها إلى الأمام وكأنها تشير إلى هذه المغارة، ويظهر من خلفها يوسف على حمار آخر في وضعية مشابهة.

يمضي يوسف باحثاً عن قابلة تساعد مريم في الولادة، ويجد عجوزا يهودية، ويدخل معها إلى المغارة بعد غروب الشمس، فإذا بالمغارة "مملوءة نوراً أحسن من السُرج والقناديل، كأنه ضوء الشمس، والصبي ملفوف يرضع من مريم أمه". "وإذ هما يعجبان من ذلك النور، جاء الرعاة، فأشعلوا ناراً، وفرحوا فرحاً شديداً، وتراءت لهم الأجناد السماوية تهلل وتسبّح لله تعالى". شارك الرعاة في هذا التسبيح، فصارت المغارة في ذلك الوقت مثل البيعة العلوية "لأن الأفواه السماوية والألسن الأرضية كانت تمجد وتعظم ميلاد السيد المسيح". يستعير الراوي مشهد القابلة من أشهر أناجيل الطفولة وأقدمها، وهو الانجيل المعروف باسم انجيل يعقوب التمهيدي. ويستعير مشهد وصول الرعاة وظهور الملائكة من الفصل الثاني من انجيل لوقا، ويدمج الروايتين في رواية واحدة. ترافق هذا النص منمنمة يظهر في القسم الأعلى منها المسيح الطفل وسط مريم ويوسف من جهة، وملاكان في الجهة الأخرى. وفي القسم الأسفل، يظهر ثلاثة من الرعاة يتقدمون في اتجاه يوسف الذي يرفع ذراعه نحوههم.

ينتقل راوي "الانجيل العربي"، إلى خبر زيارة المجوس "حسب ما تنبّأ به زرادشت، ومعهم القرابين، الذهب والمر واللبان". ثم يستطرد ويضيف: "بعض الناس زعم انهم كانوا ثلاثة كعدد القرابين، وبعضهم قال كانوا اثني عشر رجلاً من أولاد ملوكهم، وبعضهم قال كانوا عشرة من أولاد الملوك ونحو ألف ومئتي رجل أتباعاً، فحين وصلوا المغارة ودخلوها وجدوا يوسف ومريم والطفل ملفوف في القمط موضوع في المعلف، فسجدوا وقربوا إليه قرابينهم، ووضعوا تيجانهم بين يديه، وسجدوا له". تُرافق هذا النص منمنمة أخرى يظهر في القسم الأعلى منها، المسيح الطفل وسط مريم ويوسف من جهة، وملاك مواجه لهما من الجهة المقابلة. وفي القسم الأسفل، يظهر المجوس ساجدين، وهم هنا أربعة، بخلاف التقليد الذي جعلهم ثلاثة منذ بدايات الفن المسيحي في القرن الثالث.

يستعيد هذا الفصل رواية متّى التي لا يحدّد طبيعة المجوس ولا تذكر عددهم ولا أسماءهم، إلا أن مجمل الشروح الآبائية تجمع على أنهم من الفرس، وهم بحسب التقليد بعدد الهدايا التي حملوها، وهي الذهب والبخور والطِّيب. يرمز الذهب إلى ملوكيّة المسيح، ويشير البخور إلى طبيعته الإلهية، أما الطِّيب، فهو إشارة موته، وهو من هذا المنطلق تأكيد لطبيعته البشرية.

تنفتح رواية زيارة المجوس في الانجيل العربي على رواية جديدة لا نجد لها أي أثر في انجيل متّى. بحسب هذه الرواية، سأل يوسف الملوك: "من أنتم ومن أين جئتم؟". فأجابوه: "نحن فرس، ولهذا جئنا". عندها، أخذت مريم قماط طفلها، ووهبته للمجوس، فقبلوه منها "أحسن قبول، ومضوا يهتدون بنوره حتى وصلوا بلدهم، فاجتمع إليهم ملوكهم وسندتهم، فقالوا: ما الذي رأيتم وفعلتم، وكيف مضيتم وعدتم، وما الذي استصحبتم؟ فأظهروا لهم القماط الذي دفعته إليهم مريم، فعملوا لذلك عيداً، وأضرموا ناراً كعادتهم، وسجدوا لها، وألقوا ذلك القماط فيها، فأخذته النار ومزجته بها، فلما خمدت النار أخرجوه وهو كالذي كان أولاً، كأن لم تمسّه نار، فأقبلوا يقبّلونه ويضعونه على الرؤوس والأحداق قائلين ان هذا هو الحق، وبغير شك إنه أمر إلهي حيث لم تقدر النار ان تحرقه أو تفسده، وأذخروه (أي حافظوا عليه كذخيرة) بالكرامة الجليلة".

في المنمنمة التي تختزل هذه الأعجوبة، يظهر أحد ملوك المجوس حاملاً بين يديه قماط المسيح الطفل، ويظهر من خلفه رجل معمّم يرفع يده في اتجاه فمه مندهشاً. وفي الجهة المقابلة، نرى ثلاثة رجال جالسين أرضاً يرفعون أيديهم في اتجاه حامل القماط. مرة أخرى، يتجلّى الأسلوب العباسي بشكل جلي في صياغة التأليف كما في صياغة سائر عناصر الصورة وملامحها، مما يعطي هذه الرسوم طابعاً خاصاً يخرجها عن النسق البيزنطي الذي طبع نتاج الفنون المسيحية في تلك الحقبة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024