حين تكون الاحتجاجات هايد بارك لبنان

محمد حجيري

الأحد 2019/10/20
من ميزات التظاهرات الأخيرة، التي تنقلها وسائل الاعلام اللبنانية مباشرة، أنها خالية من الخطباء(وان حمل بعض الشبان المايكروفونات الصغيرة وهتفوا) والمنصّات، خالية من أي الوجوه السياسية المعروفة، النيابية والوزارية والحزبية والدينية، وإن كانت بعض الشخصيات السياسية (النيابية والحزبية) حاولت الاستثمار وركوب موجة الحشود، سواء في التغريدات أو التعليقات أو المواقف والأفكار الاصلاحية، لكن الجمهور كان "غاضباً" ومنزعجاً وثائراً وفاجراً متفوها بعبارات "لازم كلنا ننزل على الطريق"، "هجرتو ولادنا"، "جوعتونا"، "حرامية" و"كلن يعني كلن"، مع التأكيد أن هذا الكليشيه يتبدد في لحظة العمل الحسّي والملموس. والمرّات القليلة التي حدث وجود سياسي بالصدفة أو بالقصد حصلت مشكلة، بدءاً من مشكلة المتظاهرين مع مرافقي الوزير أكرم شهيب وأدت الى اطلاق النار في الهواء، مروراً بمشكلة مصباح الأحدب مع بعض المتظاهرين في ساحة النور في طرابلس. في المضمر والمقنع، هناك متظاهرون فصاميون، حزبيون تابعون لأحزاب السلطة يتظاهرون ضد السلطة(مع زعيمهم ضد طرف في السلطة)، مرة يتقنعون بشعارات كمال جنبلاط ومرة أخرى بشعارات موسى الصدر... وفي المشهد أيضاً هناك مجموعة من الوصوليين الصغار والأبواق، الذين استفادوا بقوّة من الفساد السياسي خلال الأعوام الماضية، والآن يركبون الموجة ويحاولون ابراز طهرهم وتقرّبهم من الناس، وينطقون بوجع الناس.

يمكن وصف التظاهرات في مختلف المناطق اللبنانية بأنها "هايد بارك"، نسمعُ فيه على الهواء مباشرة، مختلف التعابير النابية والسياسية والمطلبية والشعرية والزجلية والثورية والنسوية والجامعية والشبابية والعلمانية والحقوقية والعسكرية والمدنية والعمالية، هناك من يطالب بـ"حكومة عسكرية"، وهناك من يريد "استعادة الأموال المنهوبة"، وهناك من يقول "ثورة، ثورة"... كل شيء يمكن أن يحصل في الهايد بارك، حتى بعض تجّار المخدرات الصغار، أطلّ عدد منهم يحاول المطالبة بـ"حقوقه"، عبر وسائل الاعلام في مشهد كوميدي بائس. وبرزت موجة "الشعب الواحد" تحت العلم اللبناني الواحد مع اغنيات "قلن انك لبناني" و"يا ثوار الارض"، على عكس المواسم الانتخابية التي تبرز الحالة القبلية للشعب اللبناني... فأمام الاحداث المفصلية ينفخت الدف ويتفرق العشاق.

المشهد الأبرز كان كسر "المحرمات" في الشارع الشيعي (الجنوبي- البعلبكي)، أزيلت صور الرئيس نبيه بري في بعض المناطق، وبُخّت بعض الانصاب بالسبراي في مشهد احتجاجي، وبدا أن الشعارات الرنانة والمقاومة والعدو على الأبواب و"التكفير سيأكلنا"، لم تعد تكفي لصد الناس. لم يجد حسن نصرالله فزاعة تؤدي الى جعل الشيعة في "بلوك" واحد مؤيد لحزب الله كما حصل بشكل كبير عام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أو بعد حرب تموز 2006، أو بعد بدء الاحتجاجات في سوريا عام 2011. ربما نشهد في الأيام المقبلة سيناريو من حزب الله لفض المظاهرات(اذا استمرت)، واعادة الحشود إلى بؤر الطوائف والزعامات أو حتى العراء، فهذه الحشود التي انبثقت من ترهل 8 و14 آذار وفشلهم، بات مشهدها يشكل خطراً حقيقياً على النظام الحالي و"العهد" المسيطر والمستبدّ، خصوصاً أن هذا النظام لم يعد لديه ما يقدمه للجمهور شحّت خدماته وماله السياسي، بل إنه يريد فرض الضرائب المباشرة وغير المباشرة لإنقاذ نفسه. حتّى "دويلة حزب الله" باتت عاجزة عن تلبية أدنى مطالب جمهورها ومحازبيها.

كان طموح الوزير محمد شقير لتحصيل "الزبدة المالية" من الواتس اب المجاني، القشة التي قصمت ظهر البعير، واتى جبروت نصرالله في خطبته ليزيد الطين بلة، فهو دائماً يأخذ اللبنانيين الى رد الفعل، سواء في خطاب "شكرا سوريا" في 8 آذار 2005 وكانت النتيجة 14 آذار، أو في بعض خطبه الانتخابية وافعاله الميدانية، مثل 7 أيار...

حتى الآن لا يمكن التنبؤ بمآل السياسة اللبنانية في المستقبل القريب، لكن بالتأكيد معظم الشارع كان ضد عهد جبران باسيل تحديدا أكثر من الحكومة (وآخر نكتة أن باسيل يطلب من محاميه الإدّعاء على كل من يقوم بشتمه في الشارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي)، وحزب الله سيحاول جهده لإجهاض ما يجري، فهو يعنيه من كل ما يجري نفسه، وتجاربه السابقة تجعلنا نتشاءم. على ان الأوراق الاصلاحية التي تّقدم عبرَ المنابر، وان فكرتها ممتازة، لكن حين تصدر عن فاسد تصبح مجرد مشهدية كراكوزية.

والسؤال الأبرز، لنفترض سقطت الحكومة والعهد، ماذا سيفعل الحراك؟ هنا يبدأ "الجهاد الأكبر".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024