"صراح" لمنهل السراج.. حكاية مهاجرين سوريّين في السويد

المدن - ثقافة

الإثنين 2019/06/10
صدرت لدى منشورات سرد(سوريا) رواية "صراح" للكاتبة منهل السراج.

عن الرواية: 
«صراح» مهاجرة في السويد. منذ بدء الحرب في بلدها تعذّرت الكتابة لديها، تسعى للقبض على المفتاح لحرية التعبير، لكن الأقفال تواجهها. تعمل مع طفلٍ متوحّد، والده «جبران» يعمل في مكتبة، ويحارب التمييز، لكنه ما زال يجد نفسه في أقبية معتمة.
«جبران» يتوق إلى «صراح»، وهي تتوق إلى الكتابة، وتتذكر أيامها في حماة، وطموحها أن تجد السكينة.
في هذه الرواية، تقصّ علينا منهل السرّاج، بأسلوب مختلف في السرد والكتابة، حكاية مهاجرين سوريّين في السويد، وظروفهم، وتشتُّت علاقاتهم، وتنثر، بهدوء، تأمّلاتٍ في الوجود، والحياة، والثقة، والحب، والسلام...

مقطع من الرواية: 
وضعت خضاراً مما توفر في الثلاجة في إناء من الماء الفاتر، وما إن أدارت خلاطاً حتى صار الطعم كما تبتغيه طيّباً ومرغوباً، زكياً، كما كان يقال عن طعم العدس بالحامض.

منذ زمن لم يزرها صديق. كانت هناك امرأة تتردّد إلى بيتها، تتكلّم وتشكو صاحبها، تقول إنه يأخذ المفتاح منها ويطلب منها المغادرة. وتذهب إلى البار حين يسافر صاحبها، تعتني بصحن طعامها، وتشكو من ألم المعدة، وجع مزمن يتنوّع في أعراضه وتنوّع في الشكوى، أين هي كل تلك السنوات؟ ليس مهمّاً، قالت لنفسها، ومضت إلى شؤونها. وشؤونها في اللحظة كانت أن تحمل فرشاة وتنزع حصى صغيرة تعلق بالأحذية. وتذهب إلى نادي الرياضة، وتنهمك في الركض.

اكتشفت أن لصالة التمرين زاوية وأجهزة لم ترها قبل ذلك، استخدمتها وجرّبتها. 
نظرت إلى ظهرها، مشدوداً كما ينبغي لشابة، لم تكن ترى مؤخرتها كما بدت لها في ذلك الصباح، ولا تدري أيّ سبب جعلها تنوي ألا تأكل يومذاك. كانت تشعر بالقوة رغم ليلها الذي كان قاسياً، كذلك ابنها قال إن ليله كان مؤرقاً.

كأن أبناؤها استعانوا بحكمتها. فالجرح، بالتعريف: سوريا والذاكرة، نفضت رأسها وأحاطت الإبهام بلصاقٍ طبّيّ كان في علبة مغلقة منذ سنين في بيتها، وكانت رائحته رائحة الخزن تفوح وتثير الكثير من الحنين. 
صوت ماء مصرف الجيران، أتراه ماء يتسرّب من تحتها؟
إعلان يقول: أين هو الأفضل لتعيش؟ ثم صورة ناطحة سحاب.
تناولت دهون الوجه ومحيط العينين، واستراحت في الكنبة، تتمهّل في مسح تغضّنات السنين. كشفت عن بشرةٍ نقيّة وجسدٍ مشدود، واستمعت لحليم يغنّي: الهوى هوايا!

الفكرة أن يأخذ الحب طريقه. تجاوزت الخمسين من العمر، ولكنها ما زالت تتساءل عن هوية الأهل، هل هم هؤلاء الذين توجَد أو وُجدت بينهم، أم أنهم أولادها الذين ولدتهم؟ ثم صارت تتدارس أمر الاهتمام بهم أو إهمالهم. الأهل تلك البيئة التي انتقلت إليها؟ جيران ومرحبا باردة ومجاملات وعناقات؟ أم أنهم هؤلاء الذين يأتونها في أحلامها ويتركونها متعجّبة من تفضيلهم امرأة ثانية؟ زوج أنجبت منه ولم يعجبها يوماً؟ 
لماذا تحمّل نفسها أعباء تعريف الهوية والمساند؟ كي تترك تمرين النفس والجسم أو ترجع إلى التمرين؟ وما هي تلك القضية التي لا تتطلّب أخذاً وتركاً ونضالاً وفوزاً وخسارة وذهاباً وعوداً؟ الحرية، يقول الإلهام، ولكنها ما زالت تتساءل عن نيل الحرية، طريقها وجهدها. 
غيرها يتشارك ويتحالف ويعدّ أدوات ذلك، بحجّة السورية، أما هي فقد كانت بمفردها تواجه تلك التحالفات والتخالفات، وحين ترتكب المخالفة بنفسها، تفعل ذلك من ضرورة أن تُفسد، ولم تعرف لذّة الإفساد، لعلّها عرفتها في بعض طفولتها: تخطف شيئاً من بين كثرة. 
البيت للأبناء، تدرك هذا ولكن يقال إن الانتفاع للآباء، ونفعها أن تكتب بحرّية، وتشعر بالرضا، وتستمر، إنها تنظّف المكان للأبناء، وجلست تلميذةً لمعلّم القيم، وآن لها أن تنتفع وأن يبادروا إليها معترفين باهتمامها وطموحها، لا كأمٍّ خرِفة لهم.

التفتت وهي تعدّ طبق عشاء، تريد طعاماً وافياً، غنيّاً مشبعاً لذيذاً وجذّاباً لكي يكون مشهّياً. 
تفضّل، تحدّث معي! قالت لجنّ البيت، لم يجبها إلا نظرة منها إلى جزدان الفلوس، قطعت الاتصال إلا مع الرقص، الرقص يختصر رياضات العالم ونشاطاته، تعاونه وأذاه، رميات الحظ.

ثم، قبل النوم، كان في التلفاز مشهد رجلٍ يطلب يد حبيبةٍ جاهداً، يركع أمامها فتجيبه ركوعاً، ابتسمت للتعادل. وقامت إلى سريرها لتأوي كما تفعل كل ليلة منذ زمن طويل، مع أن الموجودات التي تنطق وتدفعها لارتكابات، تقاومها بحركة من أصابعها أو من رأسها، من أطرافها، تبطلها لتفعل غيرها وتقاتل. 

*** 
خرجت نهاراً، الهتاف الذي يجب أن يتردّد في كل أرجاء العالم: لا للعنصرية في شوارعنا!
ماذا يدور بينها وبين العالم الحديث؟ الجواب يكمن في الاندماج. عبرت صبيّة بشعرٍ أشقر وبنطال من الجينز مشدود عليها. والجواب يكمن في التقاط المصلحة، وقد تكون المصلحة عكس تركيب طبيعتها، صراح. كلما بادرت إلى تمشيط ذاتٍ وفهم حدود، وجدت أمامها أسيجةً وغيوماً سوداء.

وقد اعتادت على موضوع الاندماج وليست وحدها في هذا العبء، وقد كانت مادة الصخور في المدرسة من مواد أثارت فضولاً لديها. 

قالت إحداهن ممن يتحدثن في السياسة منذ عقود، والموضوع كان دائماً اليهود والعدو الإسرائيلي، قالت تسألها عبر السكايب: لماذا لا تكتبين وتنشرين ما تكتبين؟ لماذا هذا التشدّد على الذات؟ أجابت صراح، إن الموضوع ليس كذلك تماماً، ولكن كيف تقول موضوعها، فالأَسر الذي هي فيه لا يقال ولا يثبت، إنه قرعٌ من سقفٍ، وإشاراتٌ عبر الكلمات ومن خلال الصفحات التي تفتحها، كيف تشير إلى التماعات قد تختفي إن رأتها عين ثانية؟ عالمها سرّي وسوف تجد موصلاً إليه. قالت للمرأة، إنها تجاوزت مرحلة التأثيم، كان ذلك اللفظ الذي أتى على بالها، كانت تفتقد المرح، قالت، إنها ظروف البيت والعائلة، وصمتت، كانت أشياء البيت تتابعها بحذر، وتحثّها على الألفة والسكنى.

خرجت تتمشّى، هل تبيع البيت وتنتقل؟ حسبت وجمعت وطرحت ثم فكرت بتفاصيل الانتقال، ومن سيفعل معها؟ خطّطت لكلّ شيء، حتى تفصيل نقل أشياء القبو. لكن ما إن انتهت التصوّرات والتقديرات حتى سألت: ماذا سيتغيّر؟ 
كان الممشى رمادياً وحصى الطريق لا تنبئ إلا بتماثل الأحوال، وأن كلّ المساكن تحت السقوف ذاتها، والمحاولات فوق ذلك ضرورة.


عن الكاتبة: 
منهل السرّاج: روائية سورية، من مواليد حماة. تقيم في السويد منذ عام 2006. كتبت العشرات من المقالات التي تهتم بالشأن السياسي والاجتماعي والديني. أصدرت مجموعتها القصصية الأولى "تخطي الجسر" عام 2007، فازت روايتها "كما ينبغي لنهر" بجائزة الشارقة للإبداع العربي الدورة السادسة 2002. من رواياتها: "جورة حوا"، "على صدري"، "عصي الدم". 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024