سمير اليوسف... محمود درويش مفكراً

المدن - ثقافة

الخميس 2020/08/13
لا شك في أن الدعم المادي الذي قدمته منظمة التحرير الفلسطينية، وبمبادرة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات نفسه، كان ضرورياً لكي يستثمر محمود درويش موهبته على خير وجه. لم يضطر الشاعر ان يعمل لكي يكسب رزقه ومن ثم كان كل وقته ملكه.

الى ذلك وعلى رغم أنه كان شخصية عامة مهمة، الا أنه كان، في حياته الشخصية، ميّالاً للعزلة. هناك عدد قليل من الناس الذين ظفروا بثقته ودخلوا حياته الشخصية وإن بقدر محدود أيضاً. درويش كان يعرف الكثير من الناس ويثق في القليل منهم، وإلى ذلك لم يكن عنده أصدقاء بمعنى الصداقة الفعليّة.

أن وقته كان ملكه يعني ان الشاعر كان عنده الكثير من الوقت ليقرأ، وهو كان قارئاً نهماً، ولكي يكتب ويفكرّ. لا بد أن حياته الفكرية انضوت على حوارات داخلية لا حصر لها.
محمود درويش تمتع بما يكفي من الوقت والذكاء لكي يكون أهم شاعر عربي في القرن العشرين وما بعد، ولكي يكون مفكراً كبيراً أيضاً.

صحيح أنه لم يصغ نظريات في الشعر أو النثر، لم يكتب متصنعاً دور الفيلسوف أو المفكر. لا، درويش كان شاعراً أولاً وأخيراً. الى ذلك فهو لم يعدم الثقة في موهبته، وإنجازه، كشاعر لكي ينظّر لقصيدته. وحده الشاعر معدوم الموهبة، أو الثقة في قيمة ما يكتب، يلجأ الى حيلة بذيئة مثل صياغة نظريات حول الشعر يكون هدفها شرح قصائده أو الدفاع عنها. لا شاعر كبيراً يحتاج الى تأليف نظريات.

في الحقيقة، فإن درويش في تعامله مع الكتابة كان ارستقراطياً. كان يكتب حينما يشاء وعما يشاء.

لقد كتب النثر، كتباً ومقالات. بل ومن أرقى ما كُتب من نثر في اللغة العربية. لا أحد يمكن أن يجادل حول أهمية نصّ مثل "ذاكرة للنسيان" أو بالضرورة أية من مقالاته الأخرى. وعلى رغم أن كتاباته النثرية كانت مرتبطة بظروف آنية، إلا أنها استطاعت التغلب على عامل الزمن. نقرأ نصوصه ومقالاته اليوم فنحس وأنها كُتبت هنا والآن.

نعم، "هنا والآن" منطق الحداثة. درويش كان أعمق حداثةً من كافة أدعياء الحداثة في الثقافة العربية.
ما السرّ في نثره الذي جعله مقروءاً حتى الآن؟
اللغة، من دون شك. عبارة درويش كانت عبارة يكتبها شاعر، لكنه شاعر يستوعب شرط النثر الأساسي، أهمية المعنى. لا نثر من دون معنى يثير الاهتمام. وعنده اجتمع جمال العبارة وقوة المعنى.

الى ذلك تمتع درويش بتلك القدرة الباهرة على انتاج الحكمة الخاطفة. بفقرة، أو حتى بسطر، تراه يلخّص موقفاً خطيراً أو جدالياً. أذكر مقالته عن الشاعر راشد حسين.
راشد حسين كان شخصية قلقة، لا تعرف الاستقرار، الأمر الذي افضى به مرة الى اللقاء بمثقفين اسرائيليين ومن منطلق كونه قومياً عربياً. المثقفون الاسرائيليون عاملوه بكل ودّ وأصغوا اليه بكل احترام ولكن من دون نتيجة تُذكر.
درويش لخصّ محنة راشد مع الاسرائيليين بسطر يتألف من أربع كلمات: "كان موقفه أقوى من موقعه".

هذه في الحقيقة حالة كل الفلسطينين الذين آمنوا بضرورة الحوار مع الآخر (بمن فيهم كاتب هذه السطور). موقفنا كان أقوى من موقعنا. نشارك في مؤتمرات، نعبّر عن موقفنا، نروي حكايتنا، نناقش ونرد على الحجة بحجة أقوى، ويصفق الجمهور لنا أيضاً. لكن في النهاية كل طرف يعود الى موقعه. المثقف الاسرائيلي يعود الى دولة حديثة مدججة بأحدث الاسلحة النووية، بينما يعود المثقف الفلسطيني الى.. أين؟ المنفى أو مجتمع يخضع لسلطة الاحتلال.
غير أن فكر محمود درويش لا يقتصر على الحكمة الخاطفة. لا، فكره الأهم عمليّ الطابع ويتجلى على نحو خاص في موقفه السياسي من فلسطين ومنظمة التحرير والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.

انضوى درويش في منظمة التحرير، وعلى مقربة معقولة من ياسر عرفات، وهو شاعر كبير. دخل المنظمة بشروطه هو، واستمر فيها بشروطه، وهو حينما استقال منها في النهاية فعل ذلك لأنها لم تعد تتوافق مع شروطه.

لم يكن محمود درويش من أصحاب الشعارات الراديكالية الرنانة والفارغة. لذلك فانه أحجم عن التورط مع الجبهات أو المنظات الراديكالية اليسارية. التاريخ، في ضوء ما جرى لمثل هذه الجماعات، وقد انتهت معزولة على هامش الهامش، وحينما يُسمع لها صوت فذلك للتعبير عن مواقف عدميّة ومعيبة، مثل تأييد السفاح السوري بشار الأسد، يبيّن انه كان على حق.

درويش كان قريباً من عرفات، لكن ليس قريباً بحيث يكون من جوقته. في الوقت نفسه كان بعيداً منه، لكن ليس الى حد التمرد عليه وخيانته.

يتجلى موقفه هذا على خير وجه في العام 1983، أحد أشدّ الفصول سواداً في تاريخ منظمة التحرير والشعب الفلسطيني. وقتها عمدت حفنة من الخونة، من أمثال المدعو ابو موسى وابو صالح وابو خالد العملة وغيرهم، الى الانشقاق عن منظمة التحرير والانقلاب على قيادة ياسر عرفات. أنعتهم الآن بالخونة، ليس فقط لأنهم تسببوا في اقتتال فلسطيني هو الأشد دمويّة، لكن لأنهم فعلوا ذلك بتحريض من النظام السوري الذي كان ينتظر الفرصة السانحة للقضاء على منظمة التحرير.

طبعاً فشلوا وانتهوا أخيراً الى حيث ينتهي الخونة من أمثالهم: مزبلة التاريخ.
ماذا كان موقف درويش من الأمر؟
الشاعر زار المنشقين واستمع اليهم وحاول إقناعهم بالعدول عما ينتون فعله. لكن لا، كان الخونة غارقين في عسل السفاح المقبور حافظ أسد. عندها اتخذ درويش موقفه الواضح والصريح: قيادة فاسدة، اي قيادة ياسرعرفات، خيّر من قيادة خائنة، اي المنشقين العاملين بامرة النظام السوري. هنا أيضاً، برهن التاريخ على أن درويش كان على صواب.

محمود درويش في شروطه كان أرسطي (نسبة الى ارسطو) النزعة. احتقر سياسة اليسار الرافض حد العقم، لكنه في الوقت نفسه رفض الانحدار الى مستوى سياسة أوسلو. بوصول الامر الى هذا الحد، قدّم استقالته من منظمة التحرير ووضع حداً لتحالفه المديد مع قيادة ياسر عرفات.

الشاعر لم يكن متطرفاً ولم يكن انتقامي النزعة. بخلاف إدوارد سعيد، مثلاً، الذي انبرى في الهجوم على ياسر عرفات باسلوب هستيري مثير للخجل، فإن محمود درويش، بعدما أعلن موقفه من أتفاقية أوسلو، قرر أن يتنحى ويلتزم الصمت، لكنه الصمت الذي يقول أقوى ما يقوله أي كلام.

محمود درويش هو الذي كتب مرة: "ما أكبر الفكرة ما أضيق الدولة" والفكرة هي الوطن الواسع، وهذا ما اختار أخيراً، حينما كان لا بد له من الاختيار.

(*) مدونة نشرها الكاتب الفلسطيني سمير اليوسف في صفحته الفايسبوكية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024