صورة لوليتا التي غلبت كوبريك ونابوكوف

سليم البيك

الجمعة 2019/01/11
صدر في أيلول/سبتمبر الماضي، كتاب بعنوان "لوليتا الحقيقية" للصحافية الأميركية سارة وينمان، ألحقته، بعد أيام، بمقالة في "دايلي بيست" عنونته: "تعرّف على لوليتا الحقيقية التي ألهمت نابوكوف في روايته"، ولحقتها الصحافة الأنكلوساكسونية بمقالات حول الموضوع.

تربط وينمان في مقالتها/كتابها بين أحداث الرواية، وحادثة حقيقية أشار لها نابوكوف في روايته بسطر سريع هو "ما فعله همبرت همبرت بدولوريس هايز هو، في الحقيقة، ما فعله فرانك لا سال بسالي هورنر العام 1948." حقّقت في ذلك وأتتنا بـ"لوليتا الحقيقية".
لكن لنبق، كقرّاء/مشاهدين، في ما نعرفه عن لوليتا نابوكوف، أو -للدقة- في الصورة الأولى التي تخطر لنا متى قرأنا/سمعنا كلمة "لوليتا"، وهو ما يحيلنا إلى الفيلم الذي رسّخ تلك الصورة أكثر مما فعلت الرواية.

الكشف عن لوليتا الحقيقية يعيدنا إلى البحث عن "صورة" لوليتا في أذهاننا.
هي صورة أتت من السينمائي إلى الروائي، وليس العكس. من ستانلي كوبريك إلى فلاديمير نابوكوف، وإن كان الأوّل هو من لحقَ الثّاني، أو صنع فيلم "لوليتا" المأخوذ تماماً عن رواية نابوكوف "لوليتا". غير أن الحديث عن صورة لوليتا، أو تحديداً تلك النظّارات الشمسيّة ذات الإطار الأحمر وفي شكل قلب، هي لوليتا كوبريك وليست لوليتل نابوكوف. أو هي ليست حتى لوليتا كوبريك!

لنعُد إلى الموضوع من أوّله… كتب الرّوسي نابوكوف روايته الأشهر باللغة الإنكليزية، ونُشرت أوّل مرّة العام 1955 في باريس، مع إرشادات منه للمصمّم بألا يشمل الغلاف صورة لفتاة. وفي النّص ذاته، نقرأ في موقعين فقط، بأنّ الفتاة تضع نظارات سوداء داكنة. لا لون أحمرَ، ولا قلوب.

لكن، حتى في فيلم كوبريك الذي أُنتج العام 1962، لم تظهر لوليتا في أي لقطة بنظّارات ذات إطار أحمر -حسناً، كان الفيلم بالأبيض والأسود- وأساساً لم تظهر بتلك النظّارات ذات الإطار بشكل قلب. لكن تلك الصّورة، اليوم، هي الدالّ الأكثر ارتباطاً بالحكاية من خلال شخصيتها الرئيسية، لوليتا.

وإن سُئل أحدنا عن هيئة لوليتا، أوّل ما قد يخطر في باله، هي تلك الصّورة التي لم تأت من الفيلم ولا من الرّواية. بل من ملصق فيلم وغلاف كتاب. لنتذكر ما استهل به جون برجر، كتابه "طرق الرؤية"، إذ قال: "الرؤية تسبق الكلمات"!

ولمقاربة فكرة لوليتا هنا، يمكن الاتّكاء على ما ذكره برجر لاحقاً، إذ "تتأثّر الطريقة التي نرى بها الأشياء بما نعرفه ونؤمن به"… ففكرة أحدنا "عن جهنم تدين بالكثير لرؤيته النار النهمة وبقايا الرّماد". وهي كذلك فكرة أحدنا عن لوليتا التي تكرّرَ حضورها في تلك الصّورة/الهيئة، بمعزل عن موثوقيّتها وعلاقتها بالأصل (هل يستطيع أحدٌ أن يثبت -مثلاً- مدى موثوقيّة العلاقة بين النار التي يعرفها هنا، والنار التي يؤمن بوجودها في الأعلى؟).

وهذه الفكرة/الصورة المنتشرة عن لوليتا لا تتوقف على أساس أنّ الفتاة لم تظهر في هذا الشّكل، لا في الرّواية ولا في الفيلم، وأنّها لم تلعق أيّ مصّاصة، لا في الرّواية ولا في الفيلم. بل أسوأ، فالصّورة التي صارت الدّال الأوّل على شخصيّة لوليتا، توصل للرائي شخصية فتاة لعوب، هي النّقيض من لوليتا في الرواية (والفيلم بنسبة أقل). إذ كانت ابنة 12 عاماً، يتيمة، خُطفت، وتمّ التحرّش بها، ثم اغتصابها مراراً وابتزازها وتهديدها بأنّها إن حكت لأحد فإنّها ستدخل مثله -الخاطف- السّجن، وأنّها ستفضّل بالتّأكيد الحياة معه على ذلك.


"لوليتا" في فيلم كوبريك (1962)

قد لا أفشي سراً حين أقول أنّ الفتاة ستهرب في النّهاية (هنالك ما يحدث بعد الهرب، وبذلك لا أكون قد أفسدت الفيلم، ولا الرّواية التي يُشار فيها باكراً إلى أنّ الفتاة ستهرب). وهذا ما يمكن أن يهوّن السّرد السّادي للرواية، الذي يحكي فيه همبرت تعلّقه البيدوفيليّ والاستغلالي والإجرامي بالفتاة، وإن كان سرداً جميلاً فنّياً وممتعاً.

لا أحكي هنا عن سطوة السينما على الأدب، وإن لم تكن السينما "بريئة" في إشاعة تلك الصّورة عن لوليتا. فحديثنا هنا يتناول صورة لوليتا -تلك التّي تلعق فيها مصاصة- في ملصق الفيلم الذي تفشّى ليظهر في أغلفة نسخ عديدة من الرّواية، وبترجمات عديدة (منها عربيّة).
أساس الإشكال هنا هو ملصق الفيلم.

غلبت الصّورةُ هنا، النصّ والشّريط. غلب النّظرُ القراءةَ والمشاهدة. غلب الكسلُ والبلادةُ، الجهدَ الذّهني المطلوب لقراءة رواية أو متابعة فيلم. من هنا، تتشكّل الثّقافة الشعبية (الپوپ) التي تُسقط "مفاهيمها" السّطحية للأعمال الفنّية، على مضمون العمل ذاته. فالطّريقة التي نرى بها الأشياء (رؤية أحدنا للنّار) تؤثّر في ما نؤمن به (فكرة أحدنا عن جهنّم).

والأرجح أن صورة لوليتا الأثيرة (التي تمصّ فيها)، والتي باتت الأكثر انتشاراً، وتفشّت في أغلفة الرّواية، وبفضلها ما عادت "لوليتا" لتُرى إلا كذلك.. ما كانت لتنتشر هكذا إلا لأنّ أحدهم لم يقرأ الكتاب ولم يشاهد الفيلم، وصار ذات يوم مصمّم أغلفة، وأمدّ الله بعمره إلى اليوم الذي طُلب منه تصميم غلاف لرواية فلاديمير نابوكوف.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024