حين كانت لي حصة من بذخ لقمان سليم

نزار آغري

الخميس 2021/02/18
عزيزي لقمان.
لا شك أنك تابعت، وتتابع، من عليائك هناك، ما كتبوا، ويكتبون، عنك. وأكاد أرى حُمرة الخجل الطفولي على وجهك، أنت الذي لم تكن تتحمل الثناء والمديح.

ثم أنني ألمح شيئاً من الضجر في قسماتك. الضجر من هذا الإصرار على أن يرسموك في هيئة ناشط سياسي، ومعارض ومخالف، متجهم الوجه، بارد القسمات، أنت الذي كنتَ تمارس الحياة كما ينبغي أن تعاش: بالحرية إلى حد الطيش. الطيش الطفولي الباذخ، أنت الذي بقيت طفلاً في أعماقك لآخر لحظة.

لن أكتب إليك لأحدثك عن أحلامك ومشاريعك وطموحاتك، التي أنجزتها والتي كنت تسعى في إنجازها، وهي أوسع من أن تلخص. أكتب إليك لأشكرك على الحظوة التي أسبغتها علي حين منحتني الفرصة لأكون بالقرب منك، أعيش معك، بالطريقة التي علمتني إياها: أن نأخذ من العيش ما في العيش.

سأذكرك بي، بالأيام التي قضيتها بالقرب منك، معك، إلى جانبك. لعلك تذكرني هناك، في عليائك.  

لم تطلب مني أن أذهب إليك في مكتبك بدار الجديد في الصنائع. أنت جئت إلي. ركنت السيارة في موقف جانبي، بالقرب من البيت حيث كنتُ أسكن، في كورنيش المزرعة. ثم دخلنا معاً إلى المستشارية الإيرانية. كنت أعرف المسؤول الثقافي فيها، رضا محمدي. ذات مرة كنت أتصفح الكتب والمجلات الفارسية حين جاء إلي، رضا، وسألني عن سر اهتمامي بالمطبوعات الإيرانية. عرف أنني أعرف اللغة الفارسية وأنني كردي. وبدأت علاقتنا.
 
جلسنا إليه، أنت وأنا، واستغرقنا في حديث طويل وجميل عن الثقافة والتاريخ الإيرانيين. سرعان ما صرتما، انت هو، صديقين.  ثم أخذتني إلى العلامة محمد حسين فضل الله، لإجراء مقابلة للمجلة التي بدأت بإصدارها في بيروت بإسم "كردنامه". ثم دفعتني إلى لقاءات مع الشخصيات السياسية والثقافية اللبنانية، وغير اللبنانية، من المتواجدين في بيروت: هاني فحص، رضوان السيد، منح الصلح، معن بشور، شفيق الحوت، وجيه كوثراني، حسن الجلبي،…الخ.
كانت علاقتك تشمل الجميع، من كل الإتجاهات والإنتماءات والطوائف والأحزاب والجماعات. كنت رسولاً حقيقياً، وشأن كل الرسل، كنتَ تفتح قلبك للجميع. 

أنت ساعدتني في تأمين هذه اللقاءات. والحال أن المجلة، "كردنامه"، كانت بالأساس، فكرتك. أنت الذي كرست وقتك لها. كنت تشرف على كل شيء فيها، كتابة وتحريراً وطباعة ومن ثم نشراً في الدار.

ثم طلبتَ مني أن أجمع المقالات التي كنتُ نشرتها في صحيفتي "الحياة" و"النهار" ونشرتها في كتاب في الدار بعنوان "كاكا والجدار". بعد ذلك طلبت مني الإتصال بسليم بركات لنشر كتابيه في السيرة الذاتية في كتاب واحد بعنوان "السيرتان". أرسل سليم بركات حماته، أم زوجته جويس، لشكرنا وأرسل معها هدايا لك ولي.
أنا كنت خرجت للتو من سجن رومية، (ألقي القبض علي لأنني كنت أحمل هوية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ولم يكن هناك ما يثبت شخصيتي). هكذا، فجأة، وجدت نفسي بين يديك. 

كنتَ تأتي إلي، تأخذني بسيارتك إلى الدار. ألبث معك. أساعدك في ما يمكنني مساعدته من تدقيق ومراقبة للصفحات المطبوعة. نراجع معاً مواد المجلة، بالقلم البنفسجي، الذي كنت تشتري دزينات كاملة منه. نغادر الدار ونمضي إلى شارع الحمرا. نبدأ من عند مبنى "دار النهار" ونمر على المقاهي، كافيه دو باري، المودكا، الويمبي، ثم ندخل مكتبة أنطوان ونشتري شيئاً، كتاباً أو مجلة، ونعود لنجلس في بار "شي أندريه". هل تتذكر حين وقعنا على مجموعة قصصية باللغة الفرنسية للكاتب الإيراني صادق هدايت؟ حينها عرفتُ مقدار ولعك، بالأدب الفارسي. رشا أيضاً كانت كذلك، وهي أعطتني كتاب مصطفى فرزانه، صديق صادق هدايت، مذكراته عنه. 

كان الآخرون ينظرون إلي، وأنا برفقتك، بعين الدهشة، بل ربما الحسد. من هو هذا الكردي الذي اختاره لقمان من بين الكل ليكون صديقه الحميم، يرافقه في السراء والضراء؟ 
كنتُ معك. في العمل، في البيت، في الشارع، في البار. تأخذني في مشاوريك، وما أكثرها، إلى الضاحية، إلى الشرقية، إلى الجنوب.
 
كنتَ تعرف أنني سوري، رغم أنني كنت أشيع لدى الجميع بأنني من تركيا، (أهلي بالفعل من كردستان تركيا في الأصل ولكنني كبرت في سوريا ودرست فيها). كنتُ هارباً من ملاحقة المخابرات السورية لأنني شاركت في إنشاء مجموعة تروتسكية ذات علاقة بحزب العمل الشيوعي السوري الذي كان النظام يقمع أفراده بقسوة شديدة. كانت بيروت مليئة بعناصر المخابرات السورية وأي خطأ في التصرف كان يمكن أن يكون مدمراً. أي وشاية، كان من شأنها أن يوقعني في أيديهم. بالرغم من ذلك، وربما بسبب ذلك، كنت تحيطني بكل عنايتك وحمايتك. بعد انتهاء اليوم كنتً تأخذني بسيارتك، أو تأخذني رشا بسيارتها، إلى البيت.
كنت أشعر في البيت عندك كأنني في بيتي، كأن أهلك أهلي.

نتناول الغداء ثم نخرج إلى البلكون. نترجم. نهيء "السيرتان". "كاكا والجدار". "كردنامه". 
في الليل كنت تهيئني كي أتمرن على السهر والطيش.

هل تذكر تلك الليلة التي اجتمعنا فيها، أنت ويحيى جابر ويوسف بزي ورضوان الأمين، وأنا، في تلك البقعة الصاخبة، في بيروت الغربية؟ حين حاولنا أن نقطف النجوم من السماء ولكننا تعثرنا ثم بدأنا نجري، ركضاً، في الشارع؟ 

كنت شخصاً عجيباً يا لقمان. كنتَ في هيئة إنسان واحد، لكن في داخلك كان يسكن ألف إنسان. كنتَ أشبه بالأرواح الألف لفرناندو بيسوا.

في الليل، كنت تعيش لليل كما كان عمر الخيام يفعل، تنادي القمر والأفلاك وتكرر أن السهر لا يقصر في الأعمار، وفي النهار كنتَ تبحث وتنقب وتفتش وتكتب وتناقش وتحاور.
لم تكن "دار الجديد" دار نشر وحسب، بل كانت أشبه بصالون أدبي وملتقى ثقافي ومركز بحثي وتجمع صحافي. كانت مكاناً للنقاش والحوار والتعارف.

هناك كان الكتاب والصحافيون يتركون مكاتبهم في "الحياة" و"النهار" و"السفير" و"النداء" و"بيروت المساء"، ويأتون، ليسمعوا رأيك، ليقولوا رأيهم: وضاح شرارة، حازم صاغية، عباس بيضون، بسام حجار، منى فياض، دلال البزري، حازم الأمين. 

كنتُ أجلس هناك، بجانبك، أتلقى الإرشاد كصبي يتعلم فنون الصنعة من يد معلمه. أتذكر حين كان الجميع جالسين من حول الطاولة، وكنتُ أجلس إلى جانب رشا، التي كانت تحدثني عن شقيقين من عفرين، حنان ومنان، ونضحك، حين قلتَ لي، فجأة: ألن تصب النبيذ يا رفيق؟ وأسقط في يدي، أنا الكردي، القادم من أعماق الريف الضائع عند الحدود التركية السورية.
كانوا يأتون ويغادرون ونبقى، أنت ورضوان ورشا وأنا، نرتب الفوضى ونلملم بقايا الكلمات التي تركوها خلفهم. 

هناك، عندك، عرفت أجمل الناس في بيروت، وأنست إليهم. حتى أولئك الذين كانوا يقفون على النقيض منك. أولئك الذين كانوا يكنون العداء لك.  

كنتَ، يا لقمان، ثوريًا، فوضوياً، هيبياً، ديكارتياً، ديكادنتياً، نيتشياً، صوفياً، تحمل في أعماقك عصارة الفكر الذي راكمه المفكرون والفلاسفة والفنانون، في المشرق والمغرب وتختزن ما تركته حركة التنوير الأوروبية وما أبدعته قريحة المتنورين المشرقيين. في ذهنك كانت تتكاتف الفلسفة الإغريقية والرومانية والأوروبية، جنباً إلى جنب الفكر الإسلامي في كل تجلياته. كان بودلير ورامبو يحتضنان الحلاج وابن عربي. وكان يحضر غوته وثربانتس وهوغو يداً بيد الفردوسي والمتنبي والشيرازي.

كنتَ تسير فيسير معك، أرسطو وسقراط وهيغل وديكارت ونيتشه وماركس وهربرت ماركوزه وهابرماس، يداً بيد أخوان الصفا والمعتزلة وابن رشد والغزالي وابن حزم والعطار النيشابوري. 

كانت فرحتك عظيمة حين رأيت الرئيس الإيراني، محمد خاتمي، يسعى في السير نحو الرقة والتسامح، يحاول بشق النفس تبيان الوجه الحضاري لإيران والإيرانيين، فأسرعت في نشر نصوصه في كتاب واخترت عنواناً له العبارة الفارسية "بيم موج" من قصيدة حافظ الشيرازي.  

في ذاكرتك كانت بقايا من التروتسكية والغرامشية والأنارشية وشعارات الإنتفاضة الطلابية في باريس. ولكنك كنتَ تقوم بتصريف كل ذلك بروح ارستقراطية، بذهنية يمينية محافظة، هادئة ورصينة. كنتَ يسارياً في أفكارك ويمينياً في سلوكك. كنتَ تريد أن تغير العالم، بهدوء، بالكلمات، بالأفكار، بالإقناع، بالحوار، بالنقاش، بالجدل. بعيداً من كل عنف وأي عنف، ولو مجرد العنف اللفظي، دع عنك الضرب والتهديد والتعذيب والدم والقتل.

كان لديك فائض من الجمال والفخامة والمنطق والفطنة. فائض من الحب والحنان والدفء.
وكنت كريماً، يا لقمان. كنتَ أكرم من الطائي، بالفعل وليس من باب البلاغة. لم يكن ثمة حد لكرمك وعطائك. كان لكل شخص حصته من عطائك. من الفكر والثقافة، لكن أيضاً من الحب والحنان. كنتَ تعطي من دون سؤال. بصمت. مغمض العينين حتى لا يشعر المتلقي بالحرج.
كنتَ جدولاً متدفقاً من الخلق والإبداع. خلق الجمال وتعميمه وإبداع الأفكار ونثرها. ولهذا كنتَ مشدوداً إلى الكتاب لحد الهوس. لم يكن الكتاب حاملاً للفكر وحسب، لكنه كان، في نظرك، تحفة. الكتاب الشغف، الكتاب الكائن، الكتاب الجسد. لم تكن مسحوراً بفحواه، لكن أيضاً بحروفه وتصميمه وغلافه. 

ولم تكن اللغة العربية عندك، ولك، ناقلة للأفكار بل نفساً حيةً، أنتَ المتجول في باحات اللغات الفرنسية والإنكليزية والألمانية. كانت اللغة العربية في عينيك جسداً رشيقاً، والكلمة العربية قامة بهية، لها مالها من مقومات الجمال، في الضمة والفتحة والكسرة والشدة والسكون، والضمة والفتحة والكسرة والهمزة والمد والتنوين.

عرفتُك يا لقمان، وعشتُ معكَ: المثقف الموسوعي واللغوي البارع والناشط السياسي والمخرج السينمائي والمؤرخ المتعمق والموثق الحصيف والصحافي الذكي. أنت كنتَ كل ذلك. لكن قبل ذلك كله، ولأجل ذلك كله، ومن أثر ذلك كله، كنتَ إنساناً بأعمق معاني كلمة الإنسان: الإنس والشغف والحب والتهذيب والخلق والعطاء.

كنتَ بهياً. نقياً. نقياً في البهاء وبهياً في نقائك، ساطعاً، عاشقاً، مغرماً بالجمال.
كنتَ أنيقاً في كل شيء. في الملبس والمأكل والمسلك، لكن قبل ذلك في الفكر والكلام والنقاش. كنت مثقلاً بالرزانة والتعقل، دقيقاً في انتخاب مفرداتك كأنك كنت تزن الكلمات بميزان الذهب وتصنع الجمل والعباراته بحرفة صائغ.

حين كنت أتابعك، في الفترة الأخيرة، وأنت تطل في شاشات التلفزيون، تعلق وتقول قولتك في الحوادث، التي يصنعها السيف فتصير أصدق أنباء من الكتب، للأسف، كنتُ أتأمل إطلالتك المشرقة وفخامتك الآسرة. كنت أتابع ما تقوله وكيف تقوله: بلغة أنيقة ووقفة شامخة، وثقة راسخة بالنفس. ومع هذا كانت تظهر، بين الجملة والجملة، ابتسامتك الساخرة. ابتسامة الطفل الصادق، البريء، الذي هتف أن الإمبراطور عارٍ.

كنتَ بالفعل مثل طفل بريء. كنتَ تحسب أن براءتك وصدقك وعفة نفسك وشهامتك، كافية لكي تحميك من السهام. غير أن البراءة والصدق وعفة النفس، يا لقمان، أشياء قاتلة في بلادنا.
من لم يتعرف إليك، لقمان، من لم يلتق بك، من لم يُصغِ إليك، من لم ينهل من عطائك وحبك وثقافتك، سيغادر العالم وفيه نقصان.

كنتُ محظوظاً لدرجة فائقة لأنني كنتُ قريباً منك جسداً وروحاً، وها قد فقدتك. 
فقدت حصتي من حضورك الطاهر وروحك المباركة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024