الجسد الضامن لثورة بلا رأس

رشا الأطرش

الخميس 2019/11/14
صار للثورة شهيدان: حسين العطار، الذي قتلته "قوى الأمر الواقع" في طريق المطار ومحيطه، أوائل أيام الثورة، حينما عارض استغلال قطع الطرق لتقاضي المال من المسافرين عبر مطار بيروت في مقابل نقلهم على متن دراجات نارية. وعلاء أبوفخر، الذي شُيّع الخميس، وقتله عنصر في مخابرات الجيش، أمام عائلته، ولم تتضح حتى الآن آلية التحقيق في الحادثة ومآلاتها.

يبدو، حتى الآن، أن قضية حسين ستُطوى بين ثنايا "فوضى عامة" و"إشكال" وقع في "يوم استثنائي"، رغم أن قاتليه ليسوا مجهولين. أما قضية علاء، فالأرجح أنها ستُدفع إلى دهاليز السياسة بدلاً من القضاء. وقد بدأت أبواق السلطة، بالفعل، تسليط الضوء على "مشاركة" الحزب التقدمي الاشتراكي في الاعتصام الذي قُتل خلاله علاء، والإشارة بالأصبع إلى مرور وليد جنبلاط عبر الطريق التي كانت مقفلة من المعتصمين إلى المستشفى بُعيد سقوط الشهيد، باعتبارهما علامتين تثبتان "تسييس" الثورة وأن لها قيادة متخفية أجندتها معروفة. وذلك، بموازاة تجاهل تام لفضيحة ومأساة ومعنى إطلاق النار، من عسكري، على مواطنين مدنيين عُزّل في الشارع، وسقوط قتيل، أياً كانت "المبررات"، وأياً كانت صفة علاء الحزبية، والتي لم يحضرها معه إلى الاعتصام، بل أحضر زوجته وابنه، فقتل أمامهما، وبكاه لبنان من شماله إلى جنوبه.

وصار للثورة اللبنانية، مغيّبوها القسريون، هؤلاء الذين لا نسمع عنهم إلا في مصر وسوريا. باكورتهم، الهَتَّاف خلدون جابر، الذي اختفى ساعات طوال، من دون أن يتمكن ذووه أو محاميه من معرفة مكانه، في أي سجن أو مركز تحقيق، في ظل انكار مختلف الأجهزة وجوده لديها، ليُفرج عنه أخيراً من الشرطة العسكرية.

وصار للثورة المضادة شبيحتها، القدامى والجدد. فإلى جانب مناصري "حزب الله" و"حركة أمل"، الذين غالباً ما "لا تستطيع" القيادات الحزبية السيطرة على دمائهم الفائرة غيرةً على الزعماء، يظهر الآن شبيحة "العونيين"، المسلحين الشرسين الذين تلبّسوا، في غمضة عين وبكفاءة مذهلة، كل خيالات خطابهم عن مليشيات نخروا آذان الجميع بموّال اشمئزازهم منها. وبذلك، صار للثورة أيضاً، جرحى ومصابون ومُهانون.

قد يرى ثوار أن حصيلة الخسائر والمواجع هذه، بعد قرابة شهر من اشتعال الشوارع والساحات، مؤلمة ومفجعة، لكنها مُحتملة مقارنة بما يعانيه الجوار العربي المنتفض. ربما يكون هذا صحيحاً، لكنه أيضاً لا يبعث على الطمأنينة. فهذه سلطة لا يستهان بقدراتها وأدواتها التي لم تستعمل منها حتى الآن إلا عيّنات. قطعاً، لا يجب إعطاءها الخوف الذي تبتغيه... بل ربما التصعيد الذي لم تحسب له حساباً.

حتى الآن، أبدعت الثورة اللبنانية. بتعلّمها من ثورات أوكرانيا وتونس والجزائر والسودان، وحتى سوريا التي غزت هتافاتها وأغانيها وشعاراتها وأفكار تنسيقياتها صفوف الشعب اللبناني الناهض. تمسكت بلا مركزيتها، وبكونها بلا قيادة واضحة يُمكن اغتيالها جسدياً أو معنوياً. بَنَت أسطورتها الجامعة، ولا تني تغذّي رومانسيتها الجامعة للطوائف والجماعات. تفادت المواضيع السياسية التي أثبتت، في تجارب سابقة، أنها قاتولية، لا سيما سلاح "حزب الله"، وركزت على مطلبيتها الاجتماعية والحقوقية. ما زالت تصدّر خطاباً إعلامياً واضحاً وبسيطاً وقوياً، في صدقه وذكائه، كما في سخريته الفعالة وفنونها الجميلة. لم تسقط في فخاخ الأحزاب والأقطاب، من دون أن تقصي أي لبناني عن ساحاتها ونشاطاتها. حافظت على سلميتها، وفرّعت أجندتها تحت عناوين شتى، من النسوية والجندر، إلى الجامعة اللبنانية، ونواة نقابات مهنية بديلة من تلك التي تسيطر عليها السلطة، أسوة بالحق في الماء والكهرباء وبيئة نظيفة واقتصاد لا يطرد أبناءه.

لكن السلطة-الخصم ليس مستكينة. هي أيضاً تتعلم من تجارب المحيط، إيران وسوريا ومصر والعراق. تتعلّم بالنصائح المباشرة، والمشاركة، والمراقبة. تخبئ وراء ظهرها أسلحة أجهزة أمنية وعسكرية جميعنا يعلم شبكاتها المعقدة والملونة سياسياً، وحججها جاهزة. هذه السلطة تمتلك تاريخاً وخبرة في إشاعة الهلع والفوضى، أمنياً واقتصادياً. إعلامها، على خَبَله المعهود، سيظل يدبّج مئة كذبة في اليوم لتسري واحدة في مسارها "الصحيح"، وهذا ما لا يُستقلّ به. وغباؤه ليس مستداماً، خصوصاً حين تسنح فرصة من قبيل "جدار نهر الكلب". شبيحة السلطة، الآن، معروفون. لكن غداً، ربما يغزون الثورة ملثمين، فلائحة "المُجرَّمين" مُعدّة مسبقاً: "القوات اللبنانية"، "التقدمي الاشتراكي"، "الكتائب"، إضافة إلى عملاء إسرائيل والسفارات، وصولاً إلى "داعش".. لم لا؟! فالكل يحسدنا على لبناننا الحبيب ويريد التدخل والقضاء علينا، لا لشيء إلا لأننا ننعم بكل هذا الهناء والرخاء والاكتفاء.. والمقاومة.

الشبكة الزبائنية للسلطة، والتي قد تتضرر مصالحها بتضرر السلطة من الثورة، لم تتحرك كلها بعد. اليوم، انبرى نقيب المحامين في بيروت، أندره الشدياق، والذي دعمه "التيار العوني" في انتخابات النقابة، لسحب المحامين المنتدبين للدفاع عن الثوار. المصارف ليست حيادية. والهيئات الاقتصادية ذات الولاءات في معظمها بدأت تتنحنح.

وأكثر.. الثورة المضادة تأتي أحياناً من قلب الثورة، وليس حصراً من خارجها. وقد رأينا كيف ذهبت مجموعات "هيئات ثورية" إلى "الحوار" مع السلطة. اليوم، نجح الجَمع الثوري العريض في تعريتها، وثبّت أنها لا تمثله، فأفشلها. لكن ماذا عن الغد؟ وماذا لو سارت السلطة، من جهتها، في أكذوبة تمثيل هؤلاء للشارع؟ والأخطر، ماذا لو صعد من يمثل فعلاً جزءاً من الشارع؟

الطغمة الحاكمة تعي أن ثورة بلا قيادة، بقدر ما تُصعِّب مواجهتها، فإنها أيضاً تُصعِّب انتقالها إلى مراحل ثورية متقدمة. وقد بدأت السلطة فعلاً بحصارات مناطقية، في محاولة لـ"معالجة" كل فرع من الثورة بالطريقة المفصلة على مقاسه الطائفي والمناطقي. لذا، وإن كان تخلي الثورة عن الرأس خياراً لامعاً، ابن عصره، ولا بد من التمسك به، فماذا عن الجسد؟ جسد من مندوبين ثوريين من كل الساحات والمناطق. لعله تشكل ويشتكل، على الأرض، بلا ضجيج، وبعيداً من عيون المتربصين، وهذا ممتاز. والضرورة تُلحّ لبلورته، وبسرعة، ليطرح ديموقراطيته وحلوله وبدائله، في الشارع، حيث تكمن الشرعية اليوم، ثم يفرضها بقوة أحقيته. انتخابات في الشارع، حكومة في الشارع... صعب؟ ربما. لكننا، منذ شهر واحد فقط، كنا كلنا يائسين من أي تحرك جامع للبنانيين، وفاجأنا أنفسنا بثورة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024