الجنس على الشاشة.. عصر جديد؟

محمد صبحي

الأحد 2021/02/21
مطلع الشهر الجاري، أعلنت الممثلة البريطانية كيرا نايتلي قرارها عدم نيّتها تصوير مشاهد جنسية تحت إدارة مخرجين ذكور. السبب؟ تعبت الممثلة من شعور عدم الراحة الذي لازمها أثناء تصوير مشاهد حميمة وإيروتيكية خاضعة للنظرة الذكورية. إعلانها الصريح ليس أقل من بيان واضح للمطالبة بمقاربات جديدة في تصوير الجنس على الشاشة. هل يمكن أن يمثّل هذا بداية عصر جديد؟


 بالطبع تدرك نايتلي أن المشاهد الجنسية لا مفر منها في بعض الأحيان، ويمكن الاستعانة بجسد/ممثلة بديل/ة لإنجازها. لكنها أوضحت قرارها بهذه الطريقة: "أنا معتدة بنفسي كثيراً، وقد أنجب جسدي طفلين ولا أشعر برغبة في الوقوف عارية أمام مجموعة من الرجال. لا أرفض المشاهد العارية من حيث المبدأ. بالتأكيد يمكنني المشاركة في فيلم عن الأمومة أو تغيُّر الجسد، ولكن فقط مع امرأة تتفهَّم ذلك". قرار قوي مناهض للنظرة الذكورية المسيطرة في صناعة السينما من إحدى النسويات المدافعات عن حقوق بنات جنسها، أم إهانة للمخرجين الذكور المتمايزين عن أقرانهم من محترفي تسليع الأجساد؟ أياً يكن، المحزن في الأمر، كيف أن امرأة جميلة مثلها تؤمن أن الحمل قد دمَّر جسدها. قرارها الشخصي بالطبع من حقّها – هذا جسدها واختيارها - لكنه يعزّز التحيّز المستمر ضد أجساد النساء (الأمهات منهن تحديداً)، والذي تغذّيه أيضاً أفلام تعاديها هي أيضاً بقرارها الأخير.

"لماذا يجب على كل امرأة على الشاشة أن تبدو كعارضة أزياء؟"، تساءلت الممثلة كاري موليغان في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز في كانون الاول /ديسمبر الماضي. "ما نتوقعه من الجمال والكمال خرج عن مساره تماماً". في المقابلة نفسها ، انتقدت مراجعة لفيلمها الأخير"امرأة شابة واعدة" نشرتها مجلة "فارايتي" الشهيرة، اعتبرها فيها الناقد (وهو مثلي الجنس) غير ملائمة لأداء دور أنثى قاتلة (femme fatale) قادرة على إغواء الرجال. "لم أكن مثيرة بما فيه الكفاية"، ترجمتها موليجان على هذا النحو. وفي الشهر التالي اشتكت مرة أخرى: "يقلقني أن مثل هذه المجلة الكبيرة يمكن أن تنتقد مظهر الممثلة، وأن هذا يُنظر إليه على أنه نقد منطقي ومعقول تماماً".

الحدثان مختلفان كثيراً، لكن ما يجمعهما هو الارتباط بين علاقتنا بالأجساد ومظهرها، لأنه، في الأخير، ما يبدو عليه ممثل أو ممثلة مهم للغاية. أجسادهم/هن ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمل. هذا ما يراه المشاهد و(دون وعي) يحكم على أساسه. تتمايز الأجساد ويتعهَّدها أصحابها بالرعاية والعناية، يتفاخر الممثلون بالنظم الغذائية القاسية أو اكتساب الوزن للقيام بدور ما، يلعبون مع التوقعات من خلال مظهرهم وصورتهم، عن طريق كسر (أو تعزيز) الصور النمطية. وهذا، بالمناسبة، هو بالضبط ما تفعله موليجان ببراعة في فيلمها المهم "امرأة شابة واعدة". الشائن في هذا الصدد هو عدم القدرة على تحديد هذا التعقيد، خاصة في حالة الممثلات. لأنه لا يمكن الحكم على رجلٍ بناءً على جاذبيته، إذ هناك العديد من الاعتبارات الأخرى. ما تطالب به نايتلي وموليغان، ببساطة، هو استعادة جسديهما، لكن يجب أن تكون تجربتهما حافزاً للنظر إلى أجساد النساء بطريقة أقل محدودية. وهنا تحديداً يكمن المدخل المناسب للحديث عن مقاربات جديدة لتصوير الجنس والمشاهد الحميمة على الشاشة.

مع رفضها الواضح لطريقة مُعيَّنة للتعامل مع المشاهد الجنسية، تحمي كيرا نايتلي نفسها. ولديها أسباب وجيهة لذلك: حتى سنوات قليلة ماضية، تركّزت صناعة السينما، وخاصة هوليوود، في أيدي حفنة من المنتجين الذكور، حتى أطقم الفيلم كانت تتكون في الغالب من الرجال. تُركَ تنفيذ المشاهد "الساخنة" - جزئياً بسبب حياء كاذب، أو التجاهل أحياناً - إما للمخرج وحده أو للممثلين والممثلات. حتى تجربة حسّاسة وقد تكون مؤلمة مثل تصوير مشهد اغتصاب، كانت تُقبَل في الماضي من دون أي استشارة مسبقة مع خبراء أو مختصين. ونادراً ما حضر أي نقاش إبداعي حول تصميم وتنفيذ مثل هذا المشهد.


تتطلب المشاهد الحميمة على وجه الخصوص قدراً كبيراً من الخبرة والحساسية. سواء كان الأمر المعني حادّاً مثل عنف جنسي أو قبلة طويلة ومكثفة، يجب أن تكون هذه المشاهد الحسّاسة للغاية ذات مصداقية وذات جودة فنية عالية، وفي الوقت نفسه يجب حماية الأشخاص المعنيين في هذه العملية. لفترة طويلة، أساءت السينما لأجساد ممثلاتها طوال عقود مضت بدعوى المصداقية، وكان الفاليوم والكحول هما الأدوات الوحيدة التي يمكن للممثلين والممثلات استخدامها لتهدئة أعصابهم حتى تظهر المشاهد الجنسية في صورة "طبيعية ومريحة". وبينما منذ العام 2000 تقريباً شهد المسرح ظهور وظيفة جديدة تحت اسم "منسق العلاقة الحميمة"، تختص بتصميم الرقصات الجنسية أو المشاهد الحميمة، استلزم الأمر وقتاً طويلاً للسينما لاستحداثها، ولم يتغير الوضع إلا كردّ فعل لحركة #me too" وقضية المنتج هارفي واينستاين. عُلوّ الأصوات الفاضحة للإساءات والاعتداءات الجنسية في مكان العمل، والمطالبة بتغيير الثقافة لضمان أماكن عمل آمنة وخالية من التحرش؛ ساهم في تغيير الأوضاع قليلاً مع تحوّل استديوهات أفلام وشركات تلفزيون كبرى لاستقطاب منسقي العلاقات الحميمة، لتجنب إساءة معاملة الممثلين والممثلات وللحصول على نتيجة أكثر مصداقية.


 في العام 2017، نشرت البريطانية إيتا أوبراين مجموعة من المبادئ التوجيهية باسم "إرشادات العلاقة الحميمة لصناعة السينما"، فيما أصبح الآن أساساً للعديد من معايير الاتحادات السينمائية في الولايات المتحدة والعديد من الدول الأنجلو ساكسونية الأخرى. وأصبحت إيتا أوبراين من أوائل منسقي الحميمية في عالم السينما، كما أسست شركة "إنتيماسي أون سايت"، تقوم من خلالها بتطوير أفضل الممارسات حول المشاهد الحميمة ومشاهد العري في الأفلام والبرامج التلفزيونية والمسرح، وتقوم من خلالها أيضاً بتدريب منسقي الحميميّة في جميع أنحاء العالم.

ما تقوم به أوبراين وزملاؤها هو التأكد من شعور الممثلين بالأمان عند تصوير المشاهد الحميمة من خلال الاستماع أولاً إليهم، لمعرفة "حدودهم"، ثم العمل على تصميم المشاهد، وتعليم الجميع كيفية التحدث بصراحة عن هذا الموضوع الحسّاس. لا يقتصر عمل منسق العلاقات الحميمة على وقت التصوير فقط بل يبدأ من مرحلة ما قبل الإنتاج. يختصّ عمله بمشاهد العًري والحب والجنس والتقبيل، المشاهد التي يتلامس فيها الممثلون جسدياً، مثل مشهد الولادة. لا مكان للارتجال أو المفاجآت في هذه المشاهد، فكل شيء يجب أن يحدث كما تم الاتفاق عليه مسبقاً مع جميع المشاركين.


وظيفة كهذه ستساعد في ضمان ألا تكون تصريحات مثل التي أطلقتها كيرا نايتلي جديرة بالعناوين الرئيسية في المستقبل غير البعيد، بل طبيعية ومفهومة. ستساعد أيضاً في تطوير بيئة العمل السينمائي بإلزام الشركات والمنتجين باتفاقيات مُلزمة ومعايير عامة للتعامل مع مثل هذه المشاهد، التي تسببت سابقاً في صدمات نفسية وندوب حيّة في نفوس بعض بطلاتها. أشهر مثال على ذلك هو فيلم برناردو بيرتولوتشي "التانعو الأخير في باريس" (1972) من بطولة مارلون براندو (48 عاماً حينها) وماريا شنايدر (19 عاماً). كان على الممثلة الشابة أن تلعب مشهد اغتصاب لم يكن موجوداً في السيناريو، ولم تتم مناقشته معها مسبقاً. تفاجأت بالأمر يوم التصوير، إذ اتفق البطل والمخرج سرّاً على تنفيذه دون إعلامها. في مقابلة في عام 2016، قال بيرتولوتشي إن ماريا شنايدر كرهته ومارلون براندو طوال حياتها، وأنه شعر بالذنب. كانت هناك أيضاً مشاكل كبيرة في فيلم جولي تيمور "فريدا" (2002)، عن حياة الرسّامة المكسيكية فريدا كالو. وفقًا للممثلة سلمى حايك، التي أدت دور البطولة، فإن المنتج هارفي واينستاين ضغط عليها لتصوير مشهد حب مثلي مع عري كامل، وهو ما لم ترغب في فعله مطلقاً. لم تستطع حايك تجاوز الحادث إلا بالأدوية، وأصيبت بصدمة نفسية.


رغم ذلك، لا يزال البعض متشككاً ويخشى أن تتقيَّد ردود الفعل الحقيقية والكيمياء الطبيعية بين الممثلين باتفاقيات وبروفات وتصميم رقصات دقيقة. والواقع، أن هذا تشكّك غير منطقي إطلاقاً، لأن نتيجة التغير الجديد غالباً ستثمر مشاهد جنسية على الشاشة مُنفّذة بشكل أفضل،  بواسطة ممثلين متحرّرين من أعباء الخوف وعدم الارتياح وغياب الأمان. الاحترام والشفافية في المجموعة يمكن أن يدعم التغيير الثقافي في صناعة السينما وتحسين المهنة لجميع المعنيين، وهذه هدف أهم من الاستبسال في الدفاع عن استمراء ظهور الأثداء والأعضاء على الشاشة دون اعتبار لأصحابها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024