إلكترو: الموسيقى التي نظرت في الصوت وفجّرته

روجيه عوطة

الجمعة 2019/07/05
في حال كان المرء لا يزال مترددا في اعتقاده ان الموسيقى الإلكترونية هي موسيقاه المفضلة، فهو، وعندما يزور المعرض الممتاز الذي تنظمه عنها "فيلهارموني باريس" (221 Avenue Jean Jaurès)، يكاد يحول تردده إلى ما يشبه اليقين. ومرد ذلك، أن هذه الموسيقى، ومنذ بدايتها، ولدت ودارت وتطورت نتيجة لقاء بين عالمين مختلفين: الآلة والماكينة، التسجيل في الاستديو والتأدية في الهواء الطلق، الصوت والصورة، المعلوم والمجهول، الحاضر والمستقبل، التعقل والخيال... فلا تتمرحل الموسيقى الإلكترونية، لا تنتقل من مرحلة إلى أخرى، سوى لأنها تفتح عالم على آخر، وتكون بمثابة صلة الوصل بينهما.

لا شك أن هذه الموسيقى تجريبية بكل ما لهذا الوصف، الذي صار مفرغاً مع الوقت، من معنى. واول "تجريبيتها" هو الاختراع، الذي نم عن انجذاب إلى الماكينة، باعتبارها رمز الإنتاج الصناعي. فها هو تاديوس كاهيل، المحامي أساساً، ينتبه إلى علاقة الموسيقى  بالكهرباء، وفي مختبره في هوليوك الأميركية، يصمم الديناموفون، وهي آلة موسيقوميكانيكية، تزن سبعة اطنان، وتصدر أصواتها بالانطلاق من عملية دوران ما يسمى "الدولاب السمعي" داخلها. بعد مغامرة كاهيل هذه، تتالى اختراع الماكينات الآلية المماثلة لماكينته، لا سيما في الولايات المتحدة، وفي نيويورك تحديداً، حيث تكاثرت الاستديوهات التي تهتم بالموسيقى الجديدة التي شرعت في الولادة. فالموسيقية والبيانيست جوهانا بايير، وبعدما تركت لابزيغ إلى نيويورك، وضعت music of the spheres، التي تعد اول موسيقى إلكترونية.
 

في الوقت نفسه، وفي باريس هذه المرة، كان المعلم بيار شايفر يكتشف ما سماها "معجزة الموسيقى"، بحيث انه، ومن خلال جعلها موضوع اختبار دائم، وجد فيها الآخرة ملموسةً. فليست الموسيقى عزفاً لصوت مجرد في كتابة نوتية. إنما هي، وقبل أي شيء، تصويت ماكيني. بمعنى آخر، هي إنتاج مادي خالص، سرعان ما يحمل على الاتصال بدنيا بعيدة ومجهولة. هذا التثوير الفرنسي ترك فعلياً أثره في الموسيقى الإلكترونية، بحيث أنه جعلها تغدو، وفي ناحية من نواحيها، فضاء لتقريب الصوت من منشئه، أي انها انزلته من علياء. كان مرتفعاً للغاية، فصار أرضياً أكثر.

في هذا السياق، يصح القول أن كلمة سر شايفر كانت "النظر في الصوت"، باستعمال الماكينات الموسيقية، اي اكتشاف كل ما يقدر على احتوائه، وتفليته. وبالفعل، هذا ما حصل في أواسط الستينات على الأقل، لا سيما مع اعتماد السانتيتزور، الذي أراد منه مخترعوه الأساس، سوبوتنيك ومووغ، أن يكون حاسوباً صوتياً يفرز الأصوات ويجمعها. من هنا، يقدم المعرض تشكيلة جان ميشال جار للسانتيتزور، التي استعملها الفنان في أعماله، وهي تقريباً تغطي كل أطوار هذه الآلة التي دمقرطت الموسيقى، وشرّعتها على صوت جديد، وهو الصوت الرقمي.
 

بدأ وقع الموسيقى الإلكترونية يتنامى إلى أن جعلها تجتاح أنواعاً كثيرة، أكان الأوبرا، أو الروك، أو الجاز، أو البانك. الا ان الأهم في هذه الجهة أن الموسيقى إياها عرفت كيف تجعل الصوت على اتصال بحاضره، ليصير بمثابة حديث فيه، ثم في ما قد يلحقه. ففرقة "كرافت فيرك" جعلت من الصوت دليلاً على الاستلاب، ولهذا، جمعت في موسيقاها بين الإلكتروني والروبوتي، لتكون رائدة في ربط الموسيقى الإلكترونية بالتيار المستقبلي. وفي الجهة عينها، مهدت الموسيقى هذه، للعلاقة بين الصوت والصورة، وقد أخذ عدد من فنانيها على عاتقهم تحويلها إلى موسيقى بصرية، تماماً كما فعل كريستيان ماركلاي في سويسرا، أو عبد الكاضم حق في ديترويت. على أنه، منذ السبعينات وحتى نهاية الثمانينات، صارت الموسيقى الإلكترونية في كل النواحي، متشعبة إلى الضجيجية والجسدية فضلاً عن الصناعية البحتة.


ينتهي المعرض إلى الفرقة الفرنسية "دافت بانك"، وهو فعليا يختارها لأنها، وبمسيرتها المتواصلة، تلخص كل اطوار الموسيقى الإلكترونية، من بدايتها حتى اليوم: من الماكينة إلى التأليف الديجيتالي، من الصوت إلى طحنه، من السينما إلى الافتراض، من المستقلبية إلى الفضائية، وهذا، ما يجعل أعضاء الفرقة مقنّعين بقبعات رواد الفضاء على الدوام، ومن المختبر إلى الجماهير الراقصة، ومن العلب وأسطح المباني إلى تظاهرات LGBTQ، ومن المخترعين إلى الدي-جيهات. ففي حين كانت الأنواع الموسيقية الأخرى تدور على نفسها، كان الإلكترو يتحول إلى موسيقى تفجر الموسيقى، وتنتشر بحرية في كل مكان. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024