كان التعامل مع تلك المبالغات متفاوتاً. فبعض منها في النصوص التوضيحية تم تخفيفها أو مسحها بالألمانية فيما ظلت كما هي بالإنكليزية، وبعضها تغيرت في اللغتين لكنها بقيت كما هي بالأوكرانية. هناك قصة مختلفة حبكت في كل لغة من لغات المتحف الثلاث، وبشكل ينم عن عشوائية والكثير من التخبط في نوايا كتّابها. الطابق الأرضي في المتحف خصص بالكامل للحرب الحالية مع روسيا، وبينما انتُزعت كل الشعارات السوفياتية من أوكرانيا في 2015، ما زال تمثال "الوطن الأم" يحمل درعه الشعار السوفياتي، أما سيفه الذي كان أعلى من قمة الصليب فوق قبة "كييف لافارا" فقد قُصَّ. وهكذا عاد صليب الدير الأرثوذكسي الأقدم في أوروبا الشرقية ليكون الأعلى في العاصمة الأوكرانية.
في يومي الثاني، وفي الدير نفسه، الذي تأسس العام 1051، كان التجول في سراديبه ومغاوره الممتلئة بجثامين الرهبان المحنطة، يحكي روايتين تتقاطعان. فكييف كانت أم الأرثوذكسية السلافية، الأخت الكبرى لموسكو. في "كييف لافارا" وصلت المسيحية من القسطنطينية، ومن هناك حملها الرهبان إلى كل أراضي "روثينيا" (الاسم القديم الذي ارتبط بكييف ثم اضحى بقليل من التحريف اسماً للمساحات الشاسعة التي حكمتها موسكو). كان أول ذكر لكلمة روسيا في اللاتينية منسوباً لكييف، "روس كييف"، وظلت أسر القياصرة في موسكو ترعى دير "كييف لافارا" بوصفه البقعة الأقدس في إمبراطوريتها. لكن موسكو، السوفياتية هذه المرة، دمّرت الدير بعد الثورة البلشفية، أغلقت أبوابه، وخرّبت مبانيه التي ظلت مهجورة حتى بدأ ترميمها بعد الاستقلال في 1991، وما زال العمل مستمراً.
جاءت زيارتنا في الأسبوع الأخير قبل الانتخابات الرئاسية، وكانت هناك تحذيرات من بعض العنف في الشوارع. في يومنا الثاني، زار أحد المرشحين المتواضعين، موسكو، والتقى رئيس الوزراء الروسي. وكان هذا حدثاً صادماً بالطبع، وقابلته وسائل الإعلام بغضب. كانت الإشارات في الشوارع مختلطة، فالساحات ومحطات مترو الأنفاق مزدحمة بالشباب صغار السن، مرتدين الزي العسكري في طريقهم إلى الجبهة، وتعلن محلات الصرافة المتناثرة في كل ركن عن أسعار تبديل الروبل جنباً إلى جنب مع الدولار.
في يومنا قبل الأخير، كنت في طريقي إلى "بابي يار"، وكانت الإشارات التي قرأتها عن المكان الذي وقعت فيه واحدة من أفدح مذابح الهولوكوست، تقول إنه وادٍ يقع خارج كييف. لكن سرعان ما اكتشفت أنه أصبح في قلبها، ويقع على بعد محطة مترو واحدة من مكان إقامتي. لم يكن الوادي مجرد مكان للمذبحة التي حصدت أرواح 33 ألفاً من يهود المدينة، العام 1941، بل ساحة للصراع على الذاكرة، بعد تفكك الإتحاد السوفياتي.
فخلال العقدين الماضيين، مولت الجمعيات اليهودية نصباً تذكارية عديدة في المكان، بكتابات عبرية وشعارات دينية، ولحقت بها الجمعيات الغجرية ونصبت تذكاراً للضحايا الغجر الذين قتلوا في الوادي المخيف نفسه. ولحقت بالمنافسة على حق الضحايا، مؤسسات أوكرانية مسيحية، لتمويل أنصبة للكهنة الأرثوذكس الذين قتلوا أيضاً هناك. تحول المكان إلى حديقة عامة تنتفع بها أسر الطبقة العاملة في الجوار، ويلهو الأطفال حول تلك الأنصبة، وهم يتضاحكون، ربما بلا أدنى فكرة عن ماضي المكان وتاريخه.
بعد أيام من مغادرتنا لكييف، أُعلن حصول فلاديمير زيلينسكي على أعلى نسبة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية الأوكرانية، ووصوله إلى الجولة الثانية منها في مواجهة الرئيس الحالي، بيترو بورشينكو. لم يكن النجاح الاستثنائي لزيلينسكي، الممثل الكوميدي الذي لا يتمتع بأي خبرة سياسية، مفاجئاً. فكل استطلاعات الرأي السابقة أشارت إلى تفوق الممثل الذي حول برنامجه التلفزيوني "خادم الشعب"، إلى حزب بالاسم نفسه. يلعب زيلينسكي دور مدرس يصل بالصدفة إلى الشهرة بسبب فيديو يتحدث فيه بغضب عن الفساد، ومن هنا يصبح رئيساً.