كييف: تاريخ يحتاج الكوميديا

شادي لويس

السبت 2019/04/06
في المتحف وفي الدير وأمام النصب التذكاري، آخر شيء يمكن تبينه هو الماضي، لكن ما يظهر بقليل من النبش تحت الطبقة الرقيقة للظاهر، هو كيف كتب التاريخ نفسه أكثر من مرة، وطبقة فوق طبقة. في اليوم الأول لنا في كييف، ذهبنا إلى أحد معالمها الأهم، أو على الأقل الأكثر وضوحا في الأفق، التمثال الضخم لـ"الوطن الأم"، المرأة ذات الجسد المعدني، رافعة السيف بيد، وباليد الأخرى تمسك درعاً. ينتصب التمثال فوق متحف "تاريخ أوكرانيا في الحرب العالمية الثانية"، وهو المتحف الأكبر في البلاد. حتى العام 2015، كان المتحف نفسه يحمل اسماً آخر هو "الحرب الوطنية الكبرى"، الاسم السوفياتي للحرب الثانية، وكان التغيير الرسمي للاسم مرتبطاً ببدء التدخل العسكري الروسي في القرم، في العام السابق.

كان يجب نبذ الماضي المشترك، أو الاحتفاظ بعلاقة الحد الأدنى منه، لم تعد الحرب الثانية حرباً وطنية، بل صراعاً عالمياً سقطت فيها أوكرانيا على غير إرادتها. بقيت أجنحة المتحف على حالها كما في الماضي السوفياتي، واحتفظت بالكثير من البروباغندا السوفياتية أيضاً. كان هناك قفاز، يقول النص التوضيحي إلى جانبه أن النازيين صنعوه من جلد البشر، وماكينة استخدموها لطحن عظام السجناء السياسيين وتحويلهم لسماد، وقطعة من الصابون صنعها الألمان من شحوم ضحاياهم.

كان التعامل مع تلك المبالغات متفاوتاً. فبعض منها في النصوص التوضيحية تم تخفيفها أو مسحها بالألمانية فيما ظلت كما هي بالإنكليزية، وبعضها تغيرت في اللغتين لكنها بقيت كما هي بالأوكرانية. هناك قصة مختلفة حبكت في كل لغة من لغات المتحف الثلاث، وبشكل ينم عن عشوائية والكثير من التخبط في نوايا كتّابها. الطابق الأرضي في المتحف خصص بالكامل للحرب الحالية مع روسيا، وبينما انتُزعت كل الشعارات السوفياتية من أوكرانيا في 2015، ما زال تمثال "الوطن الأم" يحمل درعه الشعار السوفياتي، أما سيفه الذي كان أعلى من قمة الصليب فوق قبة "كييف لافارا" فقد قُصَّ. وهكذا عاد صليب الدير الأرثوذكسي الأقدم في أوروبا الشرقية ليكون الأعلى في العاصمة الأوكرانية.

في يومي الثاني، وفي الدير نفسه، الذي تأسس العام 1051، كان التجول في سراديبه ومغاوره الممتلئة بجثامين الرهبان المحنطة، يحكي روايتين تتقاطعان. فكييف كانت أم الأرثوذكسية السلافية، الأخت الكبرى لموسكو. في "كييف لافارا" وصلت المسيحية من القسطنطينية، ومن هناك حملها الرهبان إلى كل أراضي "روثينيا" (الاسم القديم الذي ارتبط بكييف ثم اضحى بقليل من التحريف اسماً للمساحات الشاسعة التي حكمتها موسكو). كان أول ذكر لكلمة روسيا في اللاتينية منسوباً لكييف، "روس كييف"، وظلت أسر القياصرة في موسكو ترعى دير "كييف لافارا" بوصفه البقعة الأقدس في إمبراطوريتها. لكن موسكو، السوفياتية هذه المرة، دمّرت الدير بعد الثورة البلشفية، أغلقت أبوابه، وخرّبت مبانيه التي ظلت مهجورة حتى بدأ ترميمها بعد الاستقلال في 1991، وما زال العمل مستمراً.

جاءت زيارتنا في الأسبوع الأخير قبل الانتخابات الرئاسية، وكانت هناك تحذيرات من بعض العنف في الشوارع. في يومنا الثاني، زار أحد المرشحين المتواضعين، موسكو، والتقى رئيس الوزراء الروسي. وكان هذا حدثاً صادماً بالطبع، وقابلته وسائل الإعلام بغضب. كانت الإشارات في الشوارع مختلطة، فالساحات ومحطات مترو الأنفاق مزدحمة بالشباب صغار السن، مرتدين الزي العسكري في طريقهم إلى الجبهة، وتعلن محلات الصرافة المتناثرة في كل ركن عن أسعار تبديل الروبل جنباً إلى جنب مع الدولار.

في يومنا قبل الأخير، كنت في طريقي إلى "بابي يار"، وكانت الإشارات التي قرأتها عن المكان الذي وقعت فيه واحدة من أفدح مذابح الهولوكوست، تقول إنه وادٍ يقع خارج كييف. لكن سرعان ما اكتشفت أنه أصبح في قلبها، ويقع على بعد محطة مترو واحدة من مكان إقامتي. لم يكن الوادي مجرد مكان للمذبحة التي حصدت أرواح 33 ألفاً من يهود المدينة، العام 1941، بل ساحة للصراع على الذاكرة، بعد تفكك الإتحاد السوفياتي.

فخلال العقدين الماضيين، مولت الجمعيات اليهودية نصباً تذكارية عديدة في المكان، بكتابات عبرية وشعارات دينية، ولحقت بها الجمعيات الغجرية ونصبت تذكاراً للضحايا الغجر الذين قتلوا في الوادي المخيف نفسه. ولحقت بالمنافسة على حق الضحايا، مؤسسات أوكرانية مسيحية، لتمويل أنصبة للكهنة الأرثوذكس الذين قتلوا أيضاً هناك. تحول المكان إلى حديقة عامة تنتفع بها أسر الطبقة العاملة في الجوار، ويلهو الأطفال حول تلك الأنصبة، وهم يتضاحكون، ربما بلا أدنى فكرة عن ماضي المكان وتاريخه.

بعد أيام من مغادرتنا لكييف، أُعلن حصول فلاديمير زيلينسكي على أعلى نسبة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية الأوكرانية، ووصوله إلى الجولة الثانية منها في مواجهة الرئيس الحالي، بيترو بورشينكو. لم يكن النجاح الاستثنائي لزيلينسكي، الممثل الكوميدي الذي لا يتمتع بأي خبرة سياسية، مفاجئاً. فكل استطلاعات الرأي السابقة أشارت إلى تفوق الممثل الذي حول برنامجه التلفزيوني "خادم الشعب"، إلى حزب بالاسم نفسه. يلعب زيلينسكي دور مدرس يصل بالصدفة إلى الشهرة بسبب فيديو يتحدث فيه بغضب عن الفساد، ومن هنا يصبح رئيساً.

يبدو الأمر كملهاة، أن تتحول المسلسلات الكوميدية إلى واقع سياسي، لكن هذا كله يظل غير صادم. فالتصويت المعادية للمؤسسة السياسية تجتاح أوروبا كلها. على الأقل التصويت لزيلينسكي، ليس تصويتاً لليمين المتطرف كما في أماكن أخرى في شرق أوروبا. لا خطر، فالرئيس الحالي نفسه ينتمي إلى أقصى اليمين القومي بالفعل، وهو يبني دعايته على العداء لروسيا، والأقليات، ومن ضمنها الأقلية الناطقة بالروسية.

يتميز زيلينسكي عن منافسيه بإنه غير موصوم بالفساد مثلهم، ويلاقي صغر سنه النسبي إقبالاً من الشباب الغاضبين من الوضع الاقتصادي المأزوم بسبب الحرب. لكن أهم ما يتفوق فيه المرشح الكوميدي أنه يقدم حلاً وسطاً لمعضلة التاريخ ومراجعته في أوكرانيا. فإن كانت محاولة التخلص من تركة الماضي المشترك الثقيل مع روسيا، أو العودة إليها، محور الصراع السياسي في أوكرانيا منذ الاستقلال، فإن زيلينسكي يقدم حلاً وسطاً. ففي حين يدعم القوات الأوكرانية في الحرب في القرم، ويتبرع لأغراض المجهود الحربي، فإنه أيضاً يعارض قرار الحكومة الأوكرانية بمنع الأعمال الفنية باللغة الروسية، فهو نفسه يقوم بالكثير من أدواره بالروسية وبالشراكة من ممثلين روس. يقبل زيلينسكي بحقيقة معركة دموية مع روسيا، لكنه لا يدع هذا يكون سبباً لتزييف الماضي أو إنكار ثقافة مشتركة وتاريخ حميم معها. نجح ممثل الكوميديا في اجتذاب أصوات كل من الناطقين بالأوكرانية والناطقين بالروسية في بلاده، وتبدو تلك خطوة واحدة للأمام في سبيل التعايش، ليس مع الآخر فقط، بل مع تاريخ صعب ولاتزال جروحه مفتوحة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024