سامية جمال.. أثر الفراشة لا يزول

وجدي الكومي

الأحد 2017/05/21
 

الحب لحن جميل.. يتغنى بين قلبين " سامية جمال وفريد الأطرش"

تحتفظ ذاكرتي بحكاية قديمة كانت سائدة عن اعتزال سامية جمال الرقص مرة أخرى، بعدما أقنعها سمير صبري بالعودة إليه عام 1984، تقول القصة، أن أحد سائقي سيارات الأجرة كان يقلها من المسرح إلى بيتها، وحينما تعرف عليها سامية جمال، هتف في وجهها: ياه.. مالك كبرتي كدا ليه.


القصة ربما لا تكون حقيقية، لكنها تجسد مروية شعبية من حكايات عديدة عن أفول نجمة كبيرة، وضعت بصمتها في صفحة من صفحات الرقص الشرقي المصري، وربما تكون كتبت أهم صفحات هذا الفن، الى جانب نجمات كبيرات، شكلن شجرة هذا الفن. اللافت أن سامية جمال من بينهن اشتهرت بدراما حياتية سارت بالتوازي مع ما قدمته من أعمال سينمائية، وعروض راقصة، سامية جمال التي حملت لقب "الفراشة" من بين بنات جيلها الراقصات تحية كاريوكا أو نعيمة عاكف أو فريدة فهمي، صدر عن حياتها مؤخرا في القاهرة كتاب يتناول سيرتها الفنية والشخصية، بعنوان "سامية جمال الفراشة" للناقدة المصرية ناهد صلاح.


تكشف الكاتبة في صفحاته الأولى البيئة السياسية التي ولدت فيها سامية جمال، مصر تتهيأ في العشرينات للحصول على استقلالها السياسي غير المكتمل، يصبح مشروع مصر آنذاك هو القضاء على الحفاء، يقترن هذا الهدف بمولد راقصة ستشتهر بعد ذلك بـ"الراقصة الحافية"، يأتي والد سامية جمال من بلدته ونا القس في بني سويف، مهاجرا إلى حي الجمالية، ويستقر بطفلته السمراء الصغيرة زينب خليل محفوظ في الحي المتشبع بتراث مصر، تنمو الطفلة بين أب يحاول تدبير نفقات أسرته، وزوجة قاسية، تحرمها من فانوس رمضان، فتدخر ثمنه، وتلهو به في الخفاء، ثم تستبقيه عند صاحب المحل المجاور لبيتها، قبل أن تكتشف زوجة الأب القاسية حيلتها، فتمنحها علقة ساخنة.


تشير الكاتبة إلى طرافة تضارب التواريخ العديدة لميلاد سامية جمال، بعض النقاد الفنيين أرجعوا ميلادها للعام 1921، فيما يخمنه البعض الأخر أنه عام 1924، لترجح سامية نفسها كفة الفريق الثاني، كأن من الطبيعي أن يحيط الغموض بكل ما يتعلق بهذه الفنانة التي نبتت من الظروف القاسية، حتى تاريخ مولدها، تلتحق سامية جمال مع بلوغها الرابعة عشرة من عمرها، بمصنع للطباعة، ثم تعمل ممرضة فى مستشفى، وأخيرا تحط في مشغل خياطة، حيث يولد داخلها شغف بغرام صاحبة المشغل بالسينما، والتي كانت تحكي لها عن الأفلام الجديدة، فتسحبها من يدها، وتدخلها إلى صندوق الدنيا، حيث الاستوديوهات السينمائية، ومواقع التصوير، وأخيرا تصحبها لمشاهدة فيلم لبديعة مصابني، فتهفو روح الفراشة إلى أن تكون ضمن أركان هذا العالم.


تلفت ناهد صلاح إلى تزامن توقيت ميلاد سامية جمال، مع تمرد المرأة المصرية وخروجها إلى الشارع في ثورة 1919، ثم خلعها النقاب من بعد ذلك، وانضمام النساء إلى طابور الملتحقات بالجامعة، التي لم تذهب إليها سامية جمال، بل خطت بجرأة إلى عالم الارتيست بديعة مصابني...


تحكي ناهد صلاح في الكتاب عن الفرصتين اللتين منحتهما بديعة لسامية، وكيف تجمدت في الفرصة الأولى، ولم تستطع أن ترقص قيد أنملة، ثم في الفرصة الثانية زفرت بالنصر، بعدما تدربت طويلا على يد مدرب الرقص إيزاك ديكسون، قبلها لم ترض سامية بكونها كومبارس منسياً، وسط حشد من الراقصات في الأفلام التي ظهرت فيها "المعلم بحبح" عام 1935، و"العزيمة" 1939، لم تكن هذه الجنة التي تنتظرها سامية جمال، سلطت عينيها على مكانة تحية كاريوكا، تقول سامية: تمنيت أن أصبح راقصة مشهورة مثل تحية، كنت أتقاضى 3 جنيهات في الشهر، قررت الست بديعة أن يكون هذا أجري، صعدت لأول مرة على المسرح ككومبارس، وأنا لا أعرف شيئا عن اليمين وعن الشمال عند الرقص، كان رقصي أشبه بعجين الفلاحة.


بعد التدريب على يد إيزاك ديكسون تنطلق سامية جمال لترقص وتنجح، التحقت بمدرسة تعلمت فيها السامبا والرومبا والروك آند رول، والتانغو، وحتى الباليه بمساعدة مدربة الرقص سونيا إيفانوفا، ترفرف الفراشة، وتصبح مطلبا للملاهي والصالات، فتتعاقد مع ملهى في السويس بأجر 20 جنيها، وملهى "الدولز" في شارع عماد الدين بأربعين جنيها، حيث نالت لقبها الذي سيلازمها طيلة مشوارها "الراقصة الحافية" قبل أن تنتقل إلى الأريزونا، وينتقل طموحها معها إلى درجة أخرى.

في صالة بديعة يبدأ تعلق سامية جمال بفريد الأطرش، تحكي ناهد صلاح، أن الأخير كان يستعد لتصوير فيلمه "انتصار الشباب" مع شقيقته أسمهان، في الوقت الذي يبزغ فيه نجم سامية، تذهب إلى موقع التصوير، وتهديه باقة ورد ادخرت ثمنها من آجر يومين، امتنعت خلالهما عن الطعام، تبدأ بينهما قصة حب، وسيرة فنية، تنقل سامية جمال نقلة نوعية، بعد سلسلة أفلام، ظهرت فيها كممثلة هامشية "على مسرح الحياة" و"خفايا الدنيا" 1942، و"ممنوع الحب" ثم دورها الرئيس في فيلم "من فات قديمه" 1943، الذي لم يكتب له النجاح، و"رصاصة في القلب" مع عبد الوهاب عام 1944، و"أحمر شفايف" أمام نجيب الريحاني عام 1946.


تشير المؤلفة إلى أن النقلة النوعية التي حققتها سامية جمال كانت على يد فريد الأطرش، الذي لم يكن مجرد مطرب تشاركه الظهور في عمل سينمائي استعراضي، بل شكلا معا ثنائيا سينمائيا ألهب خيال الناس بالحب والدراما الساخنة، في أفلام "حبيب العمر" و"عفريتة هانم" و"أحبك أنت" و"آخر كدبة" و"تعالى سلم" و"ما تقولش لحد" والتهبت حياتهما بقصة لم تتوج بالزواج لأصرار فريد الأطرش على العزوبية وتمسكه بحياته الفنية.


أقاويل عديدة تناثرت عن استهجان فريد الأطرش - سليل الأمراء من أسرة الأطرش - لفكرة الزواج من راقصة، وهي الأقاويل التي رددتها السردية الشعبية عن علاقته بسامية جمال، إلا أن المؤلفة تمر عليها على استحياء، مشيرة إلى سردية أخرى سطرت صفحة نهاية الحب، وهي غيرة فريد الأطرش من علاقة الملك فاروق بسامية جمال، تستعين مؤلفة الكتاب بحوار أجرته الصحافية المصرية إيريس نظمي مع فريد الأطرش كمسوغ على هذه الغيرة، يعترف فريد في الحوار بغيرته من الملك فاروق، كما تستعين ناهد صلاح بحوار آخر دار بين فريد وسامية، أعرب فيه عن رفضه الزواج بها لأنه فنان، وهي فنانة، تتطرق ناهد أيضا إلى معارضة فؤاد الأطرش، الشقيق الأكبر لفريد، للزيجة، بدعوى أن الأمير لا يتزوج راقصة دخلت القصور من أبوابها الخلفية. تستهجن المؤلفة سردية مصطفى أمين، الصحافي المصري الذي نشر كتابا بعنوان "ليالي فاروق" عام 1954، يقول فيه إن فاروق قرر أن يصادق سامية جمال بعدما شاهدها في جلسة رومانسية مع فريد، وتقول: ما كتبه مصطفى أمين بدا مستفزا وجائرا، خاصة أنه سرد أكثر من معلومة، كما تستعين ناهد صلاح بمقال للشاعر المصري شعبان يوسف يدحض فيه قصة مصطفى أمين بدون دليل كبير، اللافت هنا أن أكثر من سيرة ذاتية عن حيوات الفنانين، أجمعت على أن مسلك فاروق، كان يميل إلى سرقة الحبيبات، فعلها من قبل مع رشدي أباظة وكاميليا، فلماذا لا يفعلها مع فريد الأطرش وسامية؟


تحلف سامية جمال "على المصحف" في حوار لأنيس منصور أنها لم يكن لها علاقة بالملك، لكن الصفحات التالية من الكتاب تحمل قصة أزمة سياسية بين حكومة الوفد، والقصر، بسبب إصرار فاروق على سفر سامية إلى دوفيل، لكن حكومة الوفد رفضت، ونصح البعض سامية أن تلجأ إلى مجلس الدولة تطالب فيه بإلغاء قرار وزير الداخلية محمد فؤاد سراج الدين الدين بمنع الراقصات من السفر، سامية نفسها كانت تفتخر بأن اسمها يأتي في ألقاب الملك فاروق، وأنه كان ملك مصر والسودان، وسامية جمال.


أنا كنت فاكرك ملاك.. أتاري حبك هلاك.. ظلمت قلبي بهواك

قصة سامية وفريد من أروع قصص الكتاب، وعلى الرغم أن مؤلفته غطت سيرة سامية وزواجها من الأميركي شبرد (عبدالله) كينغ الذي فتح لها الملاهي الأميركية للعمل، ثم اكتشافها تعرضها للنصب والابتزاز منها، وعودتها إلى مصر بعد ذلك مخذولة، ترغب في الاختباء من أعين الناس، وكذلك قصة زواجها من رشدي أباظة، واعتزالها الأضواء من أجل أن ترتب له حياته، وترعى ابنته قسمت، على الرغم أن المؤلفة مرت على كل هذه الجوانب من حياتها، إلا أن سيرة حبها واقترانها الفني بفريد الأطرش، تظل أثقل ما في الكتاب، وأجمل ما يشد القارئ. تقول سامية جمال للمذيع طارق حبيب في حوار أجرته بعد رحيل فريد الأطرش منتصف السبعينات، إنها كانت تشعر أن أغنيته " أنا كنت فاكرك ملاك" موجهة لها.

وإن كنت فاكرني ظلمتك يا حبيبي..تبقى ظالمني..انسي الخصام..انساه أوام


 (*) صدر الكتاب عن دار مصر العربية

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024