بيروتنا القاهرية: رثاء مؤجل

شادي لويس

السبت 2020/08/08
ساعات قليلة بعد انفجار بيروت، لم يكن أحد قد أدرك بعد طبيعته ولا من يقف وراءه ولا حجم الدمار الذي قد خلفه، لكن الحوائط الزرقاء من خارج لبنان امتلأت بمنشورات التعاطف، وحسن النية، أبيات من الشعر، مقاطع من أغان في حب بيروت، صور لزيارات سياحية لمعالمها، ذكريات شخصية وحنين للمدينة المشتهاة والمنكوبة، الكثير من البلاغة الطنانة والمكررة والصادقة أيضاً في مقصدها: بيروت ستقوم مرة أخرى... اللبنانيون يحبون الحياة، وكأن أحداً يكره الحياة، أو كأن أمام أهلها خيار آخر، غير أن يلملموا أشلاء المدينة في كل مرة، أن يسدوا النوافذ المفتوحة، يرمموا الأسقف التي سقطت، يكنسوا الرماد من طرقاتها، وأن يحاولوا نسيان أنها ربما ستنهار على رؤوسهم، مرة أخرى.


على أعتاب المراهقة، وصلتني أكثر الهدايا التي تلقيتها عجباً، على باب البيت ومن دون أن يدخل، ناولني هاني -الأكبر مني بعام- كتاباً أبيض ناصعاً وثقيلا، ورحل من دون أن يقول الكثير، كان والده يعمل في ليبيا، ويعود إلى القاهرة مرة في العام، محملاً بهدايا كانت تثيرنا جميعاً، فواكه مستوردة، عنب أسود رأيناه للمرة الأولى، ألعاب غير الألعاب التايوانية الرخيصة التي اعتدناها، ملابس بماركات عالمية. لكن هاني، هذه المرة، أحضر لي كتالوغ صور، كتاب دعائي لفصيل فلسطيني يحارب في لبنان، جثث متفحمة، جثث مدفونة تحت الركام، جثث تنزف، جثث ملقية فوق الركام، وجثث مشوهة، جثث مصايد وضعها القناصة لاصطياد ضحايا آخرين، وكل الصور من بيروت. صفحة بعد أخرى، تزيد الجثث حول الجثة المصيدة، وصورة بعد أخرى لم يكن هناك شيء سوى الدمار والجثث. كان الكتاب مخيفاً ومثيراً للغثيان، لكن في البداية فقط، ككل شيء آخر. فصيفٌ، قضيت ساعات فراغه في التأمل في تلك الصور بالأبيض والأسود، وتمرير يدي على الورق المصقول واللامع، جعل رؤية الموت معتادة، ومع الوقت أضفت الصور على بيروت رومانسية ما.

في الصيف نفسه، سأرى جثتين على ناصية شارعنا، جثتين حقيقيتين. كانت الحرب اللبنانية على وشك نهايتها، وفي شرق القاهرة المواجهات بين الأمن والجماعات الإسلامية تتصاعد، وكان هاني قد انضم للطرف الآخر أو على الأقل تظاهر بهذا إلى حين. رأيت الجثتين ولم أفزع كثيراً، بهدوء نظرت وفكرت فقط في بيروت، بيروت كتاب الصور، كانت بيروت تعزيتنا. إن كان الناس يعيشون في بيروت، يمكننا أن نعيش هنا أيضاً. بيروت الخراب الأكبر حينها، ولم نعرف ساعتها أن هذا الدمار سيعمم لاحقاً.

بعدها، وكعلامة على دخولنا إلى المراهقة من باب واسع، سنبدأ أنا وهاني في شراء مجلة "الشبكة" بالتناوب، كانت هذه مصيدة من نوع آخر. سنتبادل إخفاء الأعداد في بيوتنا، قص الصور وتبادلها. كانت هذه بيروت أخرى، أو بيروت نفسها. حلم المراهقة الشبق، حلم لا ينفي كوابيس كتاب الجثث بل يؤكده ويبتلعه داخله. يصبح الخراب ديكوراً لخيالاتنا الجنسية، يجعلها أكثر إثارة، بيروت المحطمة ظلت مادة لاستهلاكنا الشهواني والآمن.

ستفترق طرقنا في الجامعة. سينكب هاني على قراءة شكيب أرسلان لبعض الوقت، والاستماع لشرائط الشيخ الكشك، أما أنا فسأسمع زياد الرحباني، مسرحيات الحرب والبرامج الإذاعية. كانت هذه من ضمن صكوك الاعتراف اليساري في الجامعة، فيلم "بيروت الغربية" سيأتي لاحقاً، رومانسية الخراب في أبهى صورها، من دون قصد بالتأكيد. سأقرأ مهدي عامل كجزء من تجنيدي في تنظيم يساري سري، سأكتشف لاحقاً إنه غير موجود، التنظيم وبرنامج القراءة وكل شيء مجرد هلاوس أو خيالات في رأس زميلي الذي جندني... هكذا بيروتنا القاهرية، تلك المرسومة بأبيات قصائد درويش و"الشبكة" وأغاني فيروز وكتالوغ الجثث، مجرد خيالات، ديستوبيا رومانسية يسهل الاستمتاع بها في أوقات الفراغ، نحن الذين لم نزرها، لا نعرف كيف هي بيروت "غير الخيالية"، وربما لن نعرف حتى لو زرناها. كل ما بتنا نعرفه، إنه لا شيء رومانسياً في هذا الخراب المديد، لا شيء شِعرِياً في دورات الدمار وإعادة البناء، ولا في حياة مهددة دائماً. لا جمال في حرب يعيشها ضحاياها كوقت السِّلم، ولا في سلم كالحرب، بل وأكثر خراباً، لا شيء في كل هذا يستحق الأغاني ولا الشِّعر، ربما الكثير من الغضب أو ربما الصمت.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024