شجرة السيلَمَا الطرابلسية... أحزاب النجمات والجنس وستالين(2/2)

محمد حجيري

السبت 2021/11/13
بعد الجزء الأول من مقال "سينما الإنجا قبل أن تُسلم روحها" عن كتاب "العرض الأخير" لهادي زكاك، هنا الجزء الثاني...

نقرأ في كتاب "العرض الأخير/ سيرة سليما طرابلس"، للمخرج هادي زكّاك، أنه بحسب بيان صادر عن الأمن العام اللبناني في 8 مارس/آذار 1963، فإن عدد دور السينما في طرابلس بلغ 31 داراً. تنوعت عروضها بين محلية وعربية وعالمية، قدمت الأفلام الأميركية والأوروبية والمصرية والهندية والوسترن والكاراتيه والجنس الرخيص والرومانسية والإغراء، هذا عدا الحفلات والمسرحية، وتنوعت الافلام بين جيمس دين وبروسلي وبريجيت باردو وسعاد حسني، وكل جديد وجماهيري في السينما العربية والعالمية...

يقدم زكّاك شجرة عائلة للصالات، أو "الجيل المؤسس" بدءاً من صالة الانجا، مروراً بسينما أمبير، وهي أقدم سينما في لبنان ما زالت على قيد الحياة رغم توقف عروضها، وتميزت بموقعها، إذ عندما يخرج المشاهدون منها، يمرون بالقرب من كاباريه كانجارو، حيث كان الجنود الاستراليون يشربون البيرة بعدما تمركزوا في محيط المدينة سنة 1941. وقدمت الصالة الافلام العالمية والعربية والمحلية، وهي تعكس تحولات الثقافية السينمائية. ولا يختلف المشهد مع سينما روكسي، يقال كان اسمها حلوان بالاس، وحصلت فيها مغامرات بوليسية ذات مرة، اذ قُبض على مواطن وهو يحاول الخروج منها ومعه 300 علبة من مختلف انواع الدخان الأجنبي وآلة تصوير، كان قد سطا عليها مع 61 ليرة من كشك خاص بالدخان بعدما تمكن من خلع أقفاله بواسطة مفك وبانسة وسكين.

 سينما الحمرا عرفتْ بنجاحها في عرض الافلام المهمة في الخمسينيات. ومع مطلع السبعينيات، بدأت بفنون القتال وفنون الإثارة الجنسية، لتضمن هكذا جمهوراً أصبح حصرياً من الرجال الذين ينتقلون عبرها الى آفاق أخرى. لكن، في الواقع حين تتحول السينما ذكورية، تموت. لجأت "الحمرا" الى استخدام مقتطفات من مشاهد إيروتيكة تضاف الى فيلم ويسترن على سبيل المثال، ينتظرها المشاهد بلهفة، وتطور الأمر حتى الوصول الى زمن اخر وهو زمن البورنو، فانتقلت من المثالية الى الانحدار، وكأنها "دنّست بنفسها نجاحاتها في الخمسينيات". سينما دنيا التي تأسست في الاربعينيات، في الخمسينات برز تخصصها في الافلام العربية، وتدهور صيتها بسبب المشاجرات خلال العروض وإصابة البعض بضربة سكين، وكأن أحداث الفيلم أخذت تدور على الشاشة وداخل السينما وخارجها. وسينما ركس استفادت من وصول الجنود الاستراليين الى المدينة سنة 1941. وسينما اوبرا غنّى فيها فريد الأطرش برفقة الراقصة سامية جمال، وكذا المطربة فايزة أحمد أحيت فيها حفلة غنائية، وقدمت الأفلام العالمية والمحلية من "خلق الله المرأة" بطولة بريجيت باردو الى "سفربرلك" بطولة فيروز، مروراً بنجمات السينما المصرية مريم فخر الدين، شادية، وهند رستم، ومن شوشو الى صلاح تيزاني. وبينما مُنع فيلم صلاح ابو سيف "حمام الملاطيلي" (1973) في مصر، عرضته الأوبرا أكثر من مرة خلال العام 1974. الفيلم كان تعرض لحملة أدت إلى تدني جمهور يوسف شعبان وإلى رفض شمس البارودي الاعتراف به، وفي ما بعد "تابت" وتحجبت. وانتهت السينما مع بداية الحرب.

نجمات الخمسينات
زادت صالات السينما الطرابلسية في الخمسينيات (بالاس، رومانس، اوديون، متربول، شهرزاد، كابتول، كولورادو، ريفولي، امير، وصولاً الى روكسي وأوبرا)، وقد شكلت امبراطورية سينمائية تسيطر عليها بضع عائلات طرابلسية، وتخصصصت سينما ريفولي بعرض الأفلام العربية. وبحسب المخرج المسرحي فائق حميصي، "تحزب" الناس لنجمات السينما المصرية، فالبعض انتمى إلى حزب فاتن حمامة أو تحية كاريوكا أو هند رستم أو مديحة يسري، والبعض الآخر الى حزب مريم فخر الدين أو شادية أو سعاد حسني. يتجلى هذا التحزب من خلال تسمية الأولاد استناداً إلى الأفلام والممثلات. سينما أمبير كانت تقدّم العروض الثانية من الأفلام. بالاس كانت أشبه بقصر سينمائي، وتعرض الأفلام المنوعة، بينها "بياع الخواتم". في العام 1954، ظهرت شقيقتها أوديون، ويصفها زكاك بـ"المثقفة المتحررة"، وكانت تعيد عرض أفلام البالاس والكولورادو، وتستقطب كل من فاتته العروض الأولى من الأفلام، كما قدمت أفلاماً كانت موضع اكتشاف وقد تفاجئ محبي السينما، قبل أن تقتصر برمجتها خلال سنوات الحرب الأهلية وبعدها على "أفلام جنسية ناعمة".

والتحقت سينما رومانس بالعائلة سنة 1955، بعرض أفلام أوروبية وأميركية، وتميزت بوجودها في الطبقة الأخيرة من المبنى، وكانت تراقب المدينة وتطل على ساحة التل، وأقفلت في نهاية الستينيات. متروبول افتتحت في منتصف الخمسينيات، وأصبحت لها شقيقة صغرى اسمها شهرزاد، وكانت تعرض الأفلام التجارية. وهناك الكابيتول، وكولورادو نجمة الصالات والتي تميزت بمبناها العصري ومقاعدها الوثيرة.

ويمر المخرج زكاك، على الصالات في الـحياء الشعبية من "الكواكب" الى "سميراميس" وغيرهما، والأبرز في أخبار الصالات الشعبية كانت سينما "القاهرة" بين السويقة والقبة، والتي كان يمكن الدخول الى بلكونها مقابل بيضة أو رغيف خبز أو سكين مطبخ أو شوكة، وكانت المأكولات والأدوات المنزلية تجمع لصالح العائلات الفقيرة أو التي لا معيل لها. هكذا كانت السينما تلعب دوراً بارزاً بعدما أصبحت جزءاً من الحي الشعبي، تتقاسم مع الناس التقاليد ونمط الحياة. من اللافت أنه في هذه البيئة، ستلقى الأفلام التي تتناول أبطالاً خرافيين أو حقيقيين ينتفضون على الفقر، نجاحاً كبيراً، من روبن هود الى بروس لي. أما في الواقع، فيسظهر روبن هود التبانة، علي عكاوي، الذي شكل "منظمة الغضب"، ومع وفاته في السجن بعدما تم اعتقاله، سيتابع شقيقه خليل (ابو عربي) المسيرة، وكانت شخصيته مزيجاً من يساري إسلامي يناصر القضية الفلسطينية الى أن اغتالته المخابرات السورية العام 1986.

في مقلب آخر، في منطقة الميناء، كانت سيلَما "العَلَم" بإدارة السيد عازار، شيوعي الانتماء، والذي كان له الدور الكبير في جعل الناس يحبون السينما، وراح ينشر من خلال الأفلام أفكاره اليسارية والشيوعية، ومن بينها الأفلام السوفياتية التي تروج لجوزف ستالين وتبجل شخصيته، وكان صاحب السينما يشرح للجمهور الذي لا يفهم اللغة، مضمون الفيلم. وعندما بدأ الاقبال على الإفلام السوفياتية يخف، سارعت سينما "العَلَم" الى عرض الافلام الترفيهية، الأميركية والأوروبية وبروس لي.

ثمة تشعبات واسعة في شجرة السينما الطرابلسية، دمرت غصونها الحرب الأهلية والتحولات المجتمعية، وبالتالي دمرت وجهاً مهماً من وجوه المدينة. ثمة صالات اختفت وهُدمت، مثل "ريفولي"، وأخرى تحولت إلى محال تجارية، ومخازن، ومستودعات، أو تنتظر هدمها... وللبحث صلة...
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024