ازدهار الترجمة.. نهضة حقيقية أم رواج زائف؟

أسامة فاروق

الثلاثاء 2019/08/20
في تقديمه للعدد الثاني من سلسلة الـ100 كتاب "المغدورة" التي كانت تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر، قال الشاعر والمترجم رفعت سلام، بالتحديد في تموز/يوليو 2012، إن نظرةً متأملة لتاريخ الترجمة المصرية والعربية في القرن العشرين، ستكشف ما سادها من عشوائية، رغم بعض الجهود الكبرى الجديرة بالاعتبار (من قبيل سلسلة "الألف كتاب" الأولي، على سبيل المثال)، واعتماد جهود الترجمة على الفردي/الذاتي في اختيار العمل المترجَم، والافتقار إلى إستراتيجية واضحة من قِبل المؤسسات المعنية، والتفاوت المذهل في مستويات ترجمة الأعمال الثقافية الرفيعة، ما أدى في كثير من الأحيان إلى تشويه هذه الأعمال مصريًّا أو عربيًّا.

كان يرى أن هذه الوضعية المركبة أدت –مع عوامل أخرى بالطبع- إلى افتقار المكتبة المصرية والعربية لترجمات رصينة، لعدد لا يستهان به من عيون الثقافة العالمية. وهو ما يعني في نظره، "فجوات معرفية" ليست هينة، تعانيها ثقافتنا المصرية/العربية في بنيتها الأساسية، نتيجة الفجوات الناجمة عن فعل الترجمة، أو بالأحرى غيابه، بالإضافة إلى فجوات معرفية لدى الأجيال المختلفة بفعل عدم توافر الترجمات الرصينة للأعمال الرفيعة المترجمة في الماضي القريب.

كان سلام يأمل أن ترمم سلسلته الوليدة، ولو جزءاً بسيطاً من هذا الصدع الكبير الذي تكوّن عبر السنين، لكن للأسف تعطلت السلسلة أكثر من مرة لأسباب بيروقراطية عقيمة، ولم تستمر التجربة واضطر سلام لتقديم استقالته في 2017 لإصرار المسؤولين على "القتل البطيء" للمشروع الذي توقف منذئذ، وما زال مستقبل السلسلة معلقاً حتى الآن.

تجربة سلام واحدة من تجارب عديدة -على مستوى النشر الرسمي فقط- لإنقاذ الترجمة من حالة البؤس التي سيطرت عليها لسنوات طويلة، لكنها تجربة دالة جداً وكاشفة لغياب أي رؤية مؤسسية لانتشالها من هذا الوضع المأسوي الذي غرقت فيه.

هل تغير الوضع الآن؟ نعم. لأنه ببساطة ظهر متغير أساس بات ملحوظاً حالياً بخصوص وضع الترجمة، إذ التقطت دور النشر الخاصة طرف الخيط، وعادت المبادرات الفردية لتحل محل الدور الرسمي المتخبط والمتراجع، فانتعشت الترجمة، وتعددت العناوين المطروحة، وزادت نسب المبيعات.

تقارير ومتابعات عديدة أكدت أن هناك حركة ملحوظة في مجال الترجمة خلال السنوات القليلة الماضية؛ دور النشر الخاصة خصصت جزءاً كبيراً من خريطتها لنشر الترجمة وأخرى تحولت بالكامل. هناك أيضا اختلاف في حركة بيع تلك الكتب خلال الشهور الماضية رغم ارتفاع أسعارها. ربما الحركة ليست بالقوة التي نقرأ عنها في الكتب، حول فترات ازدهار الترجمة أو نهضتها، وربما دوافعها مختلفة أيضاً، لكن حتى ولو كانت بحثاً عن الربح في سلعة رائجة، فيكفي أنها حركت بحيرة راكدة منذ وقت ليس بالقليل.

هنا شهادات لمترجمين، العنصر الأبرز في المنظومة، نحاول أن نتأكد منهم ونبحث معهم في الأسباب.

أحمد عبد اللطيف: ترجمة الأدب الآن في أفضل حالاتها


نعم هناك حركة كبيرة في سوق الترجمة، لكن ليست كل حركة تعني "نهضة"، كما أن ارتفاع القراءة لا يجب أن يعني بالضرورة "نهضة في القراءة". أقصد أن للنهضة شروطًا أخرى مثل نوع المنتج الثقافي وكيفية استهلاكه. إنتاج الكثير من الكتب المفتقرة للمعرفة، وقراءة هذه الكتب، لا يعني أن العالم العربي في الطريق الصحيح. لكن هناك حركة، أظن خلال الأعوام العشرين الأخيرة، وربما منذ انطلاق المشروع القومي للترجمة في القاهرة، يمكن أن نلاحظ خروج الترجمة من عالم الركود. وخلال الأعوام العشرة الأخيرة، ساهم العديد من دور النشر المصرية والعربية في صناعة "حالة" تمخض عنها التعريف بالثقافات الأجنبية على نطاق واسع. بالملاحظة، يمكن أن نقول إن ترجمة الأدب الآن في أفضل حالاتها، مقارنة بأزمنة فائتة، والفضل يرجع لحماسة الكثير من دور النشر العربية لدخول السباق، وظهور أسماء مترجمين قادرين على القيام بهذه المهمة.

لكن لماذا أعترض على كلمة "نهضة"؟ لأن هذه الترجمات تنحصر في ترجمة الرواية، مع غياب تام للشعر، وغياب بنسبة كبيرة للقصة والفلسفة والنقد الأدبي والتاريخ. وهو ما نحتاج إليه في الثقافة العربية. وبالتأكيد غياب الترجمات العلمية إلا في ما ندر.

تشترك في ذلك دُور النشر المصرية والعربية، وكذلك الدور الأجنبية، خصوصاً في أوروبا، حيث تتقدم ترجمة الرواية وبيعها على بقية الكتب الأخرى.

هذه مسألة مرتبطة بالسوق، بالقارئ، بالمكتبات، ويشترك معهم الناشر والمترجم. لا مجازفات كبيرة في دور النشر، وعادة ما يكون الرهان على المضمون. لا يمكن أن تلوم الدور الخاصة على ذلك (إلا قليلاً) لكن يمكنك أن تلوم الدور الحكومية لأن دورها هو المجازفة بعيداً من المكاسب.

في المجمل، أقدّر جدًا هذه التجارب، هذا الانفتاح على الأدب العالمي وتقديم أسماء جديدة وأعمال جديرة بقراءتها ومتابعتها، وأتوقع لهذه التجارب النجاح لسنوات كثيرة مقبلة. وفي الوقت نفسه، أدفع في سكة المجازفة أكثر في الانفتاح على ترجمات أدبية، لكنها ليست "فيكشن"، مثل ترجمات الحكايات الشعبية أو الكتب النقدية والفكرية. سيكون لها قارئها.

في ظني الدور الخاصة ستفعل ذلك خلال السنوات المقبلة، سيكون هناك دور كبير لـ"دار المتوسط" لأنها بدأت بالفعل في ترجمة أدباء شبان وفردت مساحة للشعر وتسعى للتجديد باستمرار. دار "ذات السلاسل" أيضًا بات لها خط ترجمة مميز وطموح في العام الأخير، و"الجمل" لها باع طويل في الترجمة.

ما أتمناه أن يصاحب مجازفة دور النشر، إطلاع جيد من المترجم وحسن الاختيار، إن كان مكلفًا بذلك، حتى لا نهدر الجهد في أعمال أقل قيمة وأقل طموحًا.

أحمد شافعي: حركة الترجمة ضخمة.. لكنها خرقاء مثل فيل هائج

 


إما أن حركة الترجمة الآن أكبر من أن أتابعها جيداً، أو أنني بطبيعتي لست متابعاً جيداً. لكن بالإمكان ـ في حدود ما أتابع ـ تقسيم مشاريع الترجمة الآن إلى فئتين كبريين: مؤسسية وفردية، وأعني بالفردية جهود دور النشر الخاصة. وفي الفئتين عوار كبير، وفيهما أيضاً نماذج مضيئة.

المشاريع المؤسسية في الغالب دافعها الظاهر هو طلب الوجاهة. إذ يبدو لي كقارئ يستعرض بين الحين والآخر ما تصدره هذه المشاريع من عناوين، أنه لا اهتمام حقيقياً بالجودة، سواء عند اختيار العناوين، أو المترجمين، أو مراجعة الترجمات، أو أيٍّ من مراحل صنع الكتاب. فلا تملك إلا أن تستنتج أن السبب الوحيد لاستمرار هذه المشاريع، بل لوجودها، هو أن تنتج كعوباً لأرفف، وأرقاماً لتقارير. ويكاد مشروع المجلس الوطني للفنون والآداب في الكويت، أن يكون المشروع الوحيد الناضج، وسط مشاريع الترجمة المؤسسية في العقود الأخيرة، فمَن غيره الآن لديه سلسلة مثل "عالم المعرفة"، أو سلسلة لنشر المسرح العالمي المترجم، أو مجلة كالثقافة العالمية. ليس لدى مشروع مؤسسي آخر هذا المستوى في الترجمة في الغالبية الكاسحة من الإصدارات. وحده هذه المشروع يبدو مهتماً حقاً بالثقافة بمعناها الواسع، يبدو مستهدفاً القارئ العام الذي يجب فعلاً أن تستهدفه المؤسسات الحكومية. يبدو منطقياً في تقييم قدراته، فلا يصدر مئات العناوين أو الآلاف منها في العام الواحد، بل بضع كتب كل شهر، يوزعها توزيعاً ممتازاً، بأسعار ممتازة.

أما مشاريع دور النشر الخاصة، فهدفها الطبيعي هو الربح، لذلك لا تعنى بشيء تقريباً. تترجم أي شيء، شرط أن يكون أدباً، وأي أدب شرط أن يكون رواية، وأي رواية شرط أن تكون رائجة في لغتها الأولى. يعتمدون على أي مترجم ولا يخجلون من مستوى أي ترجمة. لا يعنيهم إلا أن يصدر الكتاب ويصل إلى المكتبات ويباع بالأسعار الخرافية التي نعرفها جميعاً. ومرة أخرى، هناك نماذج مضيئة. فالغالبية الكاسحة من ترجمات دور مثل "مسكلياني" و"أثر" و"الكتب خان"، وقليل من إصدارات داري "التنوير" و"الجمل" وربما غيرها بالتأكيد، ترجمات جيدة فعلاً ومهمة للغاية.

أرى حركة الترجمة في حدود ما، عرجاء، أو متخبطة، حركة ضخمة، لكنها ضخمة وخرقاء، كأنها حركة فيل هائج. وفي ظني أن ترويض هذا الفيل ممكن نظرياً، لكنه مستبعد واقعياً. فجهود الترجمة في النهاية جزء من جهود المجتمعات العربية الرامية إلى النهضة، ومن ثم فمصيرهما واحد، ولا أعتقد أن بين البلاد العربية بلداً يسير حقاً في طريق النهضة.

لا أعرف إن كانت لدى الجامعات العربية مطابع على غرار مطابع جامعات الغرب الرصينة. إن كانت هذه المطابع موجودة، فأنا لا أشعر بها. أتصور أن وجود نشر جامعي محترم كفيل بتغيير الصورة إلى الأفضل. أتصور إن إقامة مؤتمر سنوي للترجمة كفيل بالتنسيق بين المؤسسات المعنية بالترجمة، لكي تتمايز في ما بينها. أتصور أن ظهور مجلات لنقد الترجمة ومتابعتها يحسّن جودة الترجمة. ومراقبة مشاريع الترجمة الممولة من جهات أجنبية ـ ولو مراقبة شعبية من المثقفين والإعلاميين ـ قد يوفر جهود المترجمين لأعمال تستحق جهودهم. ولعل تمويل برامج وورش تدريب للمترجمين، المبتدئين منهم خصوصاً، سيرفع جودة المترجمين. لكن هذه كلها تصورات نظرية، بل طوباوية، لأنه لا يمكن لأمة متخبطة أن تنتج مشاريع رشيدة. ستبقى الجودة طفرات لا نملك تفسيرها، ولا نملك إلا احتضانها بإعجاب ومحبة ومشاهدتها تغرق في طوفان الرداءة.

محمد عبد النبي: طفرة نسبية ينقصها التدقيق


صحيح تمامًا أن هناك انتعاشاً ملحوظاً في حركة ترجمة النصوص الأدبية، في الوقت الراهن، بدأ منذ بضع سنوات، ربما منذ التسعينيات في القرن الماضي، مع دخول بعض دور النشر الخاصة وطرحها بدائل متنوعة أمام المتاح في النشر الحكومي المصري والعربي عمومًا. من ناحية، من غير الممكن تجاهل الدور الحيوي الذي لعبه النشر الحكومي لسنوات طويلة، وتكريس بعض الجهات الحكومية للترجمة بالتحديد مثل المركز القومي للترجمة في مصر، وبعض إصدارات وزارات الثقافة في مصر ودول عربية أخرى، لكن ربما كانت إصدارات تلك الجهات لا يكاد يعرف بها إلّا المهتمون بالمجال الأدبي والمشاركون في صناعة الأدب والثقافة بالأساس، لكن مع دخول دور النشر الخاصة وحرصها على التوزيع والربح ومواكبة الجديد (قدر الإمكان)، شهدنا الطفرة النسبية التي لا نزال نشعر بها حتى وقتنا الراهن.

لم يعد قارئ الأدب يكتفي، كما كان منذ عشرين عامًا مثلاً، بالإطلاع على الكلاسيكيات المعروفة وما يتيسر له بين الحين والآخر من الكتابات الحديثة والمعاصرة، انفتحت شهيته وصار أكثر طمعًا في التعرف على اتجاهات وأساليب وأدب مناطق مختلفة، لهذا كله نتائجه الإيجابية بكل تأكيد، حتى وإن مالَت كفة الميزان أحياناً لصالح التسلية والأدب السهل الخفيف أو الأسماء المشهورة مضمونة التوزيع.

نضيف إلى ذلك كله، التعجل واللهفة على الإنتاج والاستهلاك، من غير مهلة للتذوق والتقييم والفرز، وهو دور لم يعد يؤديه أحد سوى القراء أنفسهم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، بعدما امتلك كل منهم منصة تخصه ليعلن ذوقه ويدافع عنه ويدعو الآخرين لإتباعه. من ناحية أخرى، ثمة دور نشر لا تهتم كثيرًا لجودة الترجمة، وتكتفي بأغلفة جميلة وعناوين جذابة، لكنها لا تبذل جهداً في اختيار المترجم الكفء والمناسب لهذا العنوان تحديداً، ومنحه الوقت الكافي والمقابل المالي الذي يكفل له الحد الأدنى من حياة كريمة والوقت والفراغ اللازمين لإنتاج عمل مقبول إن لم يكن مبدعًا.

الحقيقة أن كل مسألة من هذه تحتاج وقفة مستقلة وجهداً عملياً، لتجاوزها وتحسين شروط عملية إنتاج الكتاب المترجَم على وجه العموم. لكن الجانب السلبي الآخر، في طفرة إنتاج واستهلاك الأدب المترجم، أن الأدب اختُصر تقريباً في الرواية، فنسبتها تكاد تبتلع كل الأشكال الأدبية الأخرى. فأين الشِعر المترجم مثلاً؟ فضلاً عن القصة والمسرحية والنقد الأدبي والكثير غير ذلك من الأشكال التي تقترب من الأدب من دون أن تنتمي إلى نوع محدد، كتب السِّير والأعلام مثلاً، أو الكتب التاريخية المكتوبة بنَفَس أدبي، وغير ذلك من أعمال قد تضاهي جودتها أعظم الروايات إذا كان كاتبها متميزًا.

رغم ذلك كله، أنا متفائل عمومًا، فطالما هناك حركة، فهذا في حد ذاته جيد، وستصلح التجربة من نفسها مع الوقت، والجهود الفردية والجماعية، وسيعترف مزيد من الناشرين بأهمية دور المترجم وكفاءته وربما يضجر القراء من تراكم الروايات على أرففهم ويطالبون بشيء مختلف عن التسلية السهلة والحكايات اللذيذة. 

سمير جريس: أتمنى ألا تكون "فورة" مؤقتة


الأمر بالطبع بحاجة إلى أرقام وإحصائيات ليست لدي. لكن الانطباع الذي يتولد لدى المرء عند زيارة معارض الكتب العربية هي زيادة عدد الترجمات، وزيادة الإقبال على الكتب المترجمة. ولهذا أسباب كثيرة بالطبع، أهمها الاعتقاد بأن الأعمال العالمية أكثر قيمة من الأعمال المحلية (سواء صح هذا الاعتقاد أم لا)، وأيضا أن العمل الذي يفرض ترجمته في عدد من اللغات لا بد أن يكون عملا جيدا جديرا بالقراءة.

إذن، نعم، أظن أن الترجمة تشهد نهضة ما في العالم العربي.

أما دوافع وأسباب هذا الحراك، فكما ذكرت، هناك الرغبة في مطالعة ما يكتبه العالم، والخروج من دائرة الأدب المحلي، هناك أيضاً الاعتقاد الشائع بأن ما يُترجم أكثر قيمة مما يؤلف في الوطن العربي. هناك أيضاً موضوع التمويل وسعي جهات أجنبية لتشجيع ودعم ترجمة أدبها إلى اللغات المختلفة (وهو سعي مشروع ومحمود، طالما لا تُفرض ترجمة أعمال ضحلة القيمة)، وأخيراً هناك مشروعات متعددة للترجمة في العالم العربي تضخ في السوق عدداً لا بأس به من الترجمات الجديدة (المشروع القومي للترجمة في مصر، مشروع "كلمة" الإماراتي، مطبوعات الكويت ... إلخ).

لكن أعتقد أن الفارق بين حراك اليوم وحركات النهضة القديمة، هو الفارق بين مرحلة التأسيس (ترجمة الكلاسيكيات، وعيون الأدب العالمي)، ومرحلة التنوع والانفتاح على التجارب المختلفة والجديدة.

بشكل عام آمل أن تستمر هذه التجارب، لكني أعلم أيضاً أن كثيراً من المشروعات في العالم العربي تشهد "فورة"، ثم تتلاشى بعد سنوات، ولا يعود أحد يسمع عنها شيئا. أتمنى أن يستمر هذا الحراك الذي سيفرز مع الوقت جيلاً جديداً من المترجمين من مختلف اللغات، ما أحوجنا إليهم.

ريم داوود: الرواية حرّكت الركود في عالم الترجمة 


هناك، بالفعل، حركة ترجمة قوية خلال الأعوام الأخيرة، في مجالات مختلفة، لكنها ملحوظة أكثر في عالم الرواية. في الفترة الماضية، تُرجمت أعمال لمؤلفين معروفين، لكن ما أعجبني هو الحرص أيضًا على ترجمة أعمال لأسماء غير معروفة، من بلدان نحن غير معتادين على قراءة مؤلفات كُتّابها. تعرّفنا إلى مؤلفين من أيسلندا وبيرو وبلجيكا وفنلندا، بالإضافة إلى كتب كثيرة من الصين (بما فيها أعمال الأقلّيات القومية) وروايات من أماكن متعددة في أفريقيا. ومن الطبيعي إقبال القارئ العربي على هذه الأعمال، رغم ارتفاع أسعار الكتب، لأنه متعطش للتعرف إلى آداب وثقافات وحضارات غير مألوفة بالنسبة إليه.

قد يرى البعض أن هذه الأعمال ليست بقوّة ما كان يُتَرجم في الماضي، في فترات ازدهار الترجمة، خصوصاً أنها أعمال إبداعية (روايات وقصص قصيرة) وليست أعمالًا فِكرية أو فلسفية مثلًا. شخصيًا، لا أرى أن ذلك يقلّل من قيمتها أو فائدتها، فقد ساهمت في تحريك الركود الذي ساد عالم الترجمة، في وقتٍ من الأوقات، وساهمت في أن يطّلع الناس على ثقافات أخرى، ليروها من جوانبها الإنسانية المختلفة. علاقات متنوعة ومشاعر، وأماكن جديدة بالنسبة إلى عدد كبير من القرّاء. وذلك كله جميل ومطلوب، ويسهِم في تقبّلنا لكل من حولنا.

هناك دُور نشر تعتمد بشكلٍ كبير على ترجمة الأعمال الإبداعية، والواقع أننا كنّا بحاجة لذلك. وجودها يسدّ فجوة عانيناها لبعض الوقت.

لا أرى أنها تجارب متعجلة أو تسعى للربح، لأن هناك طرقاً أسهل لتحقيق ذلك. الكثير من الموجودين في الساحة، ناشرين أو مترجمين، يؤدّون عملهم بحبّ ورغبة حقيقية في إرضاء القارئ وتعريفه بالثقافات العالمية الأخرى. اختيارات الأعمال نفسها تؤكّد ذلك. لم يعد هناك الاستسهال القديم بالاعتماد على الأسماء الشهيرة والمعروفة من الكُتّاب والمؤلفين، فقط، بل صرنا نقرأ لأسماء غير معروفة لنا بتاتًا.

أؤمن بأن أثر الترجمة باق ومستمر، خصوصًا لو كانت الأعمال عن مجتمعات مختلفة عنّا تمام الاختلاف. فمن خلالها نتعرف إلى عوالم جديدة.. الناس وتفكيرهم والطرق المختلفة التي يتبعونها في حياتهم. هذا مهم في رأيي، وهو جوهر عملية الترجمة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024