ساحة الحرية في بغداد.. حكاية 60 عاماً

محمود الزيباوي

الإثنين 2019/12/09
تشهد بغداد انتفاضة واسعة امتدّت إلى مدن متفرقة أخرى في وسط العراق وجنوبه. انطلقت الموجة الأولى من هذه الاحتجاجات، في الأول من تشرين الأول/أكتوبر، واستؤنفت بعد أسابيع من التوقف في 24 من الشهر نفسه. تحوّلت ساحة التحرير في بغداد إلى مركز لهذه الانتفاضة، وأصبحت رمزاً لها. تقع هذه الساحة في منطقة الباب الشرقي، ويتوسّطها نصب ميداني كبير أنجزه النحات جواد سليم في العام 1961، وهو النصب الذي يُعرف اليوم بـ"نصب الحرية"، واسمه الأصلي "نصب الرابع عشر من تموز". 


يُعتبر نصب الحرية أحد أهم معالم بغداد الفنية، وهو في ذاكرة العراقيين علامة ثابتة ترمز لتحرّرهم من العبودية والظلم. شُيّد هذا النصب في عهد عبد الكريم قاسم، رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع، إثر الانقلاب الذي أطاح ملك العراق فيصل الثاني في 14 تموز 1958، ويتألّف من سلسلة من الصور البرونزية الناتئة تمتدّ أفقياً على لافتة كبيرة مسطّحة طولها خمسين متراً. وتمثّل هذه السلسلة البرونزية تباعاً، مرحلة ما قبل الثورة، ثم يوم الثورة، وما بعد الثورة.

بحسب قراءة جبرا إبراهيم جبرا، يتكوّن هذا التأليف "من أربع عشرة وحدة من البرونز"، وهي على شكل "مفردات بيت من الشعر العربي يُقرأ من اليمين إلى اليسار، فكلّ وحدة هي فكرة قائمة بذاتها، لكنها تتصل بالأخرى في سياق يؤلّف المعنى الذي يعبّر عن النصب بأجمعه: توق العراق إلى الحرية منذ القِدم، وتقديمه الضحايا في سبيلها". في مقدّمة هذا الشريط، يظهر حصان هائج يثب إلى الأمام، مواجهاً ثلاثة رجال يمسكون به. خلف هذا الحصان، يرفع رجل رابع لافتة تعلن الثورة، وإلى جانبه، يقف رجل وامرأة يرفعان أيديهما نحو الأعلى في حركة مماثلة، ويحضر معهما طفل صغير ينتصب ثابتاً في وضعية المواجهة وهو يحدّق في الأفق. في الحلقة الأخيرة من هذا المشهد، تبرز امرأة نادبة، ترفع عباءتها وتلف بها رقبتها، وتتبعها نادبة أخرى تبكي وهي تحتضن ولدها الشهيد، ثم امرأة ثالثة تجثو أرضاً وهي تغمر طفلة بذراعيها.

يحتلّ مشهد يوم الثورة، مركز الوسط، وفيه يظهر جندي يبسط ذراعيه وسط سجين ينطلق من خلف القضبان من جهة، وامرأة تجسّد الحريّة تنتصب وهي ترفع مشعل النور عالياً من الجهة الأخرى. تتواصل الأحداث في الطرف المقابل، حيث يحلّ مشهد ما بعد الثورة والازدهار المنتظر في الزراعة والصناعة. تظهر أولاً، امرأة جالسة بأمان تحوطها الأغصان المزهرة مع يمامتين تقفان على كتفيها، وتجسّد هذه المرأة الحرية والسلام والطمأنينة. ثم تحضر امرأة يظلّلها النخيل تجسّد نهر دجلة، وامرأة حبلى محمّلة بالسنابل تجسّد الفرات، وتظهر ما بين النهرين طفلة تحمل على رأسها بعضاً من خيرات الأرض الأم. في الحلقة الأخيرة من هذا المشهد، فلاحان متلاحمان، أحدهما في زي سومري، والثاني في رداء آشوري، في إشارة إلى وحدة العرب والأكراد. ويظهر خلف هذين الفلاحين، ثور أسطوري يمثّل الخصوبة السومرية، ويظهر أمام هذا الثور عامل يمسك مطرقته ناظراً إلى الأمام بثقة وثبات.

جماعة بغداد
فنياً، يختزل نصب الحرية، بأسلوبه المبتكر، الجمالية التي عبّر عنها البيان الثاني لـ"جماعة بغداد للفن الحديث"، والتي ضمّت تحت لوائها مجموعة من الفنانين، منهم جواد سليم، فائق حسن، شاكر حسن، محمود صبري، خالد الرحال، وحافظ الدروبي. يقول هذا البيان: "تتألف جماعة بغداد للفن الحديث من رسامين ونحّاتين، لكلٍ أسلوبه المعيّن، لكنهم يتّفقون في استلهام الجو العراقي لتنمية هذا الأسلوب. فهم يريدون تصوير حياة الناس في شكل جديد، يحدّده إدراكهم وملاحظاتهم لحياة هذا البلد الذي ازدهرت فيه حضارات كثيرة، اندثرت ثمّ ازدهرت من جديد. إنهم لا يغفلون عن ارتباطهم الفكري والأسلوبي بالتطوّر الفني السائد في العالم، لكنهم في الوقت نفسه يبغون خلق أشكال تضفي على الفن العراقي طابعاً خاصاً وشخصية متميّزة".

جمع جواد سليم بين الصياغة الأشورية والرؤى الحديثة في قالب متين، معتمداً الأسلوب القديم في سرد الأحداث على شريط مسطّح بلا فواصل بينها، وابتدع نصباً تجاوز ثورة 14 تموز التي أدت إلى نهاية العهد الملكي وإعلان قيام الجمهورية العراقية. تسلّم الحكم الجديد، عبد الكريم قاسم، ودام حكمه حتى 8 شباط 1963، حينما أطاحه انقلاب عسكري آخر، وجرى إعدامه رمياً بالرصاص في مبنى الإذاعة والتلفزيون في العاصمة. شهد هذا النصب هذا الانقلاب الدامي، وشهد من بعده سلسلة لم تنقطع من الأهوال، وظلّ خلال كل تلك العقود رمزاً للحرية، كما تشهد الانتفاضة التي تتواصل اليوم في العراق.

حوّل شبان العراق المنتفضون اليوم، جدران نفق ساحة الحرية إلى معرض فني كبير تنوعت فيه الرسوم الغرافيتية الجدارية، وتردّد صدى مفردات نصب جواد سليم في عدد كبير من هذه الرسوم، كما ترّدد في عدد كبير من الرسوم الطباعية التي رصدت هذا الحدث وعبّرت عنه بتقنيات أخرى.

تشكيل
من جهة أخرى، ظهر نصب الحرية في عدد من الأعمال التشكيلية التي جسّدت هذه الانتفاضة العراقية، ومنها أعمال من توقيع فنانين مخضرمين، مثل فراس البصري، وأخرى تعود إلى فنانين من الجيل الطالع، مثل نبيل علي ومحمد المندلاوي. صوّر فراس البصري، بأسلوبه الخاص، المنتفضين، وجعل في الخلفية نصب الحرية بمفرداته الأليفة. كذلك، جمع نبيل علي بين مجموعة من المشاهد الحية الواقعية، واستعاد في القسم الأعلى أثر بابلي، وكلّله بنصب جواد سليم. في المقابل، استعاد محمد المندلاوي، في قالب محلّي عراقي، لوحة روسية شهيرة من القرن التاسع عشر تصوّر مصرع ابن ايفان الرهيب، وأدرج في القسم الأعلى من الخلفية نصب الحرية.

تكرّر هذا التأليف في لوحة، من توقيع رسامة شابة تُدعى لميا تُبرز، لوجه شاب من شباب الثورة، وهو الناشط والصحافي صفاء السراي الذي أصيب بقنبلة مسيلة للدموع أثناء مشاركته في التظاهرات التي اجتاحت شوارع بغداد في 29 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وتوفّي متأثّرا بإصابته في المستشفى بعد ساعتين، وبات منذ ذلك اليوم رمزاً لهذه الانتفاضة الشبابيّة السلميّة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024