شاكر الأنباري.. مرافعات متأخرة

المدن - ثقافة

الأربعاء 2020/09/23
منذ قرن وأنتم تشوهون صورتنا أمام العالم، وكأننا ديناصورات ما قبل التاريخ، أو مستحاثات العصر الأيوني، الكاربوني، الجليدي، الذي مر على هذه الأرض قبل ملايين السنين. لي ذاكرة لا تخيب، وكان حقل السينما واحداً من الحقول المفضلة لديكم كي تظهروا توحشنا، وعنفنا، وفجاجتنا. وقد رأيت عشرات الأفلام من هذا النوع، وكنت انتفض متذمراً لأنني لم أكن كذلك.
استوليتم على تاريخنا، وأراضينا، وأطعمتنا، وتراثنا، ورقصاتنا، وشوهتم تاريخنا، ولم نملك القوة في الوقوف ضدكم، لأن الإعلام الدولي معكم، وحمّى الحروب الصليبية معكم، ومصالح الكبار معكم. هناك قنوات تلفزيونية في المساحة الأوروبية والأميركية تبث على مدار الساعة، ودون كلل، أفلاماً عن الحرب العالمية الثانية، لا لسبب معرفي أو جمالي، بل لإظهار صنابير الغاز، والمحرقة، والاضطهاد غير المسبوق لأمة تدّعي التحضر كالأمة الألمانية. كل ذلك من أجل تبرير المذبحة. كل ذلك من أجل بناء مستوطنات آمنة، نظيفة، على آخر طراز أوروبي، حضاري. مستوطنات تجاور أطفالا متخلفين، جائعين، متسولين، باحثين عن يد حانية وعدل مفقود. كل ذلك لإظهار المظلومية التاريخية لكم، أما الشعب الذي استوطنتموه فليذهب إلى الجحيم، هو وبيوته وتراثه وأحلامه، وشيدتم بنية ثقافية على مأساة لها قرن من الزمان.

لم أقرأ رواية لكم إلا ووجدتها تنث شرعية لما حصل، رغم التعاطف الموجود مع الشخصيات الفلسطينية. عاموس عوز، يائيل دايان، شموئيل يوسف عجلون، ديفيد غروسمان، إيلي عمير، وسواهم. شعركم، ورواياتكم، وقصصكم، لا تعنيني في الحقيقة، ولم أتعلم منها، ولم تشكل لي منفعة سردية في عملي مثلما شكلت مدارس رائعة في هذا العالم، روادها الروسي دوستويفسكي وتورغنيف وتولستوي وهمنغواي وماركيز ونجيب محفوظ وفؤاد التكرلي وسنيكا وكواباتا وهاروكامي، والرائع زافون ابن برشلونة. كون ما يصل لي من سرد ووقائع لا يخفي المذبحة، ولا يغير من وهم التواجد الشرعي بيننا، وهو الوهم المستولي عليكم منذ هلوسات الزبور والتوراة ومعركة موسى مع البحر. حتى هذه سرقتموها من أساطيرنا المدفونة في رمال الناصرية، والحلة، وبوادي السماوة. وأنا في الحقيقة أفضل قراءة قصص، وروايات، وأشعار الضحايا، فهي المعبّر الحقيقي عما حصل خلال قرن من الزمان. إميل حبيبي، وغسان كنفاني، وجبرا ابراهيم جبرا، ويحيى يخلف، وسحر خليفة، وسواهم. وأترنم بأشعار محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، ومعين بسيسو، وغيرهم. أدرك جيدا، مثلما يدرك أقراني من الكتاب والمثقفين العرب، وطوال عشرات العقود من أعمارنا وتاريخنا الطازج، أن الأنظمة العربية المتعاقبة لم تقدم شيئا للشعب الفلسطيني سوى الشعارات والألفاظ. استخدمته يافطة لقتل المعارضين، وتثبيت كراسي الحكم، من صدام حسين والقذافي وحتى حافظ الأسد، استخدمته لوأد أي حرية للرأي وحقوق البشر وأحلامهم.

أجل، ندرك ذلك جيدا، لذلك لا نهتم كثيرا لما يجري حولنا من تطبيع، واتفاقات، وحذلقات فكرية وكلامية، وتبريرات حول ما يجري من توقيع، وتطبيع، وتسويغ لعلاقات حميمية معكم. لقد أهنتمونا حتى العظم طوال قرن من الزمن، وجاهدتم لإثبات عجزنا بنية خبيثة. عجزنا نحن الشعوب المسكينة التي عاشت قرونا خارج التاريخ. الحقيقة أننا كشعوب لا نحتاجكم، بل نتوجس منكم وننتظر الطعنة القادمة، فأنتم لا تنتمون إلينا، طالما نظرتم لنا باحتقار، ودونية، وشوهتم أجمل ما فينا لتسويغ فكرة شعب بلا أرض لأرض بلا شعب.

حتى لو وضع الله توقيعه على تلفيقات الود والتطبيع فلن نعير ذلك أية أهمية، لأننا نعرف ما لدينا، وسنكون آخر الملحدين في هذه الأمة. نحن مضطهدون، شعوب لا تؤمن بالإضطهاد وتحلم بكسر القيد، ودفعت ثمنا هائلا لذلك، وحائرة في اختيار الطريق نحو الشمس. أما أنتم فتزيحون الفلاحين عن أرضهم بوعي، وتصادرون بيوت العبادة عن قصد وتخطيط، وتستهينون بتاريخ شعب مجيد قطن الأرض منذ آلاف السنين. صحيح انها لحظة ركوع وهزيمة لكننا ندرك ذلك جيدا، فلسنا مأبونين أو قتلة.

يمكن لحاكم أن يصافحكم، ويبتسم في وجوهكم، ويحسب دولارات الربح والخسارة، والزمن المستوفى لبقائه على كرسي السلطة،  لكننا لن نفعل، فأيديكم ملطخة بالدماء منذ قرن، منذ عشرة عقود، منذ عشرات المعارك، لذلك لا يعنينا ما يقوم به هذا الحاكم أو ذاك، تلك الدولة أو أختها، فالفلسطيني من وجهة نظرنا، كمثقفين حقيقيين نحتفظ بشيء من الكرامة، هو أولى بأرضه وتاريخه، وهو في الحقيقة لا ينتظر منكم المساعدة. له ساعد من حجر، وله عقل يفهم التاريخ، يفكر ويبتكر ثورته، وله بابه العتيق، ومسجده، وشارعه، ورموزه الممتدة عبر التاريخ منذ الفينيقيين وحتى أصغر طفل في عتمة المخيم.

لا تستطيع اقناعي بأفكارك، ومسوغاتك، وذرائعك، فأنا أحس بما يجري وكأنني عاشق قلق أو عاشقة، دون أفكار وتعليمات، نعم أنا الفرد البسيط الباحث عن بيته، ومزرعته، وشجرة الزيتون التي تبعد عن بيته سبعين مترا فقط، وتعلّم في غصونها صيد العصافير، والحمام، ورؤية الآفاق الممتدة من البحر إلى النهر.

لكل ذلك لن أمد يدي التي لا يعترف بها أحد، ولا يراها أحد، ولا تعني أحدا، فأنا فرد مهمل في حسابات الربح والخسارة.

(*) مدونة نشرها الروائي العراقي شاكر الأنباري في صفحته الفايسبوكية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024