طاعون ميلانو الكبير

محمود الزيباوي

الثلاثاء 2020/03/31
في الأسبوع الماضي، تحدّث رئيس الحكومة الإيطالية، جوزيبي كونتي، في جلسة أمام مجلس النواب، عن المصاعب التي تشهدها بلاده في ظل انتشار فيروس كورونا، وأشار إلى قيام الكثير من الإيطاليين في الأيام الأخيرة بإعادة قراءة رواية "المخطوبان" التي وصف فيها الأديب الكبير أليساندرو مانزوني الطاعون الذي ضرب مدينة ميلانو في القرن السابع عشر.


نشر أليساندو مانزوني "المخطوبان" في 1827، وحظيت هذه الرواية منذ صدورها إلى يومنا هذا، بشهرة توازي شهرة رواية فيكتور هوغو "البؤساء" في فرنسا. تبلغ حبكة هذه القصة ذائعة الصيت، ذروتها، أثناء تفشي الطاعون في ميلانو في ثلاثينيات القرن السابع عشر، في زمن حكم أسرة هابسبورج الإسبانية. وقد اعتبر مانزوني هذا المرض آفة جلبها الأجانب، وشكّلت روايته حافزاً قوياً للنزعة القومية الإيطالية في زمن بروز الحركة السياسية الاجتماعية التي نادت بتوحيد الممالك والكونتات الإيطالية وإنهاء الحكم النمسوي والنابليوني الذي سيطر طويلاً عليها.

سبق هذا الطاعون، طاعون آخر تفشّى في ميلانو بين 1576 و1577، وأدّى في نهاية المطاف إلى وفاة 25 ألف مواطن. وقد أشار مانزوني إلى هذا الوباء في الفصل الـ31 من روايته. ظهر هذا الوباء أولاً في جمهورية البندقية، ومنها انتقل إلى مدينة مانتوفا، في أقصى جنوب شرقي إقليم لومبارديا. مع ظهور حالات الطاعون الأولى في ميلانو في تموز/يوليو، سعى الحاكم الإسباني، أنطوني دو غوزمان، إلى الحد من حركة تنقّل السكان، لكنّ المرض تفشّى سريعاً في الشهر التالي. ترك الحاكم الأسباني وكبار النبلاء، المدينة، خوفًا على حياتهم من عدوى الوباء القاتل، فتولّى رئيس أساقفة ميلانو، كارلو بوروميو، رعاية شؤون المواطنين، وأكّد للشعب أنه لن يتخّلى عنهم، وشرع مع كهنة الرعايا وبعض المنظّمات الدينية بتولّي احتياجاتهم المادّية والروحية.

أنشأ بوروميو، عدداً من المستشفيات، وقام برعاية الأيتام، وظلّ على تواصل مع المواطنين الذين تم عزلهم في منازلهم، وأمر الكهنة برفع القداديس في الساحات العامة ووسط الشوارع حتى يتمكن الناس من المشاركة من منازلهم. وحين تفاقمت الأوضاع، وتعاظمت المأساة، باع ممتلكاته الشخصية والكثير من خزينة الأبرشية لتأمين الطعام للجياع، وجعل من مفروشات داره بطانيات لتدفئة الفقراء. بذل هذا الراعي الصالح نفسه في سبيل رعيّته، ودعا الكهنة إلى العمل معه، وشاعت في زمنه رواية تقول بأنه تسلّق جبل من جثث الموتى التي كانت تكوّم فوق بعضها البعض لكي تُحرق، وذلك ليُبارك مريضاً وضَعه الناس في أعلى هذا الجبل، ظنّاً منهم أنه توفّي.

نادى بوروميو بالتواضع، وجعل من هذه الكلمة شعاراً له، وبات مثالاً في الشجاعة المرتبطة بالمحبة في إيطاليا كما سائر أنحاء الغرب المسيحي. كان هذا الكاهن في الخامسة والعشرين من عمره حين تمت سيامته أسقفًا، وقضى منهكاً في 3 تشرين الثاني/نوفمبر 1584 وهو في السادسة والأربعين، وتحوّل ضريحه إلى مزار، وأعلنت الكنيسة قداسته في 1610 في عهد البابا بولس الخامس. قبل هذا الإعلان، ظهر كارلو بورميو، وسط المصابين بالطاعون، في جدارية كبيرة أنجزها سيزار نيبيا في 1604، تزيّن مدينة جامعية تحمل اسم الأسقف في مدينة بافيا، على بعد 35 كيلومتراً جنوبي ميلانو. وبعد هذا الإعلان، ظهر القديس كارلو بوروميو وهو يعزّي مرضى مدينته في عدد كبير من اللوحات الزيتية، منها لوحة أنجزها الفنان الفلمنكي ياقوب جوردنس في 1655، ولوحة أنجزها الفنان النمسوي يوهان ميكاييل روتماير في 1722، ولوحتين أنجزهما الرسام النمساوي غاسبار فرانز سامباش في منتصف القرن الثامن عشر.

ظهر الطاعون من جديد في شمال إيطاليا في 1629، وانتشر في هذه الأقاليم حتى 1631، وقضى على أكثر من مليون شخص، أي ربع السكان، وعُرف باسم "طاعون ميلانو الكبير". دخل هذا الوباء مدينة مانتوفا، عبر عدد من الجنود الألمان والفرنسيين في زمن الحرب التي تُعرف بـ"حرب الثلاثين سنة"، ثم وصل إلى ميلانو في عهد رئيس أساقفة المدينة فيديريكو بوروميو، قريب كارلو بوروميو وخليفته. تفشّى المرض اثناء إقامة الكرنفال السنوي، وأدّى إلى استفحال الوضع الصحّي في ربيع 1631، وذلك بالتزامن مع انتشار الوباء في جمهورية البندقية. قضى هذا الطاعون على 60 ألف من سكان ميلانو، وقضى على 46 ألف شخص من سكان البندقية، ثم بلغ فلورنسا ونواحي نابولي وروما وجنوة بين 1656 و1657.

في صيف 1630، قبل وفاته بفترة قصيرة، نشر فيديريكو بوروميو، كتاباً حول الطاعون تضمّن تأمّلاته الدينية حول هذا المرض. وفقاً للرؤيا التي سادت في هذا العصر، رأى الأسقف أن هذا الوباء ليس مسألة طبية فحسب، بل هو صراع بين النور المتمثّل في محبة الله، والظلام المتمثّل ببغض الشيطان. دعا فيديريكو بوروميو، الكهنة، إلى العناية بالمرضى عن كثب في الطرق، وقضى الوباء على ثلثي الكهنة، فدعا الأسقف الرهبانيات إلى مواصلة العمل، واتهم السلطة المدنية بالتأخر في إعلان الحجر بغرض الاستمرار في جني الضرائب المفروضة على المواطنين، وهذا ما جعل من هذه السلطة أداة لشياطين الطاعون بالدرجة الأولى. وبعد مرور زهاء قرنين من الزمان، استعان أليساندرو مانزوني، بكتاب فيديريكو بوروميو، حين ألّف روايته "المخطوبان"، ووصف فيها الطاعون الذي أبعد رنزو عن خطيبته لوسيا.

دخل فيديريكو بوروميو، بدوره، عالم الفنون التشكيلية، وظهر وسط مرضى طاعون ميلانو الكبير في لوحة كبيرة من محفوظات مكتبة القديس أمبروزيوس تعود إلى العام 1670. كما ظهر في لوحة من محفوظات متحف أبرشية ترينتو تعود إلى الحقبة نفسها، وفيها بدا محلّقاً في الأخدار السماوية في القسم الأعلى من التأليف، وبدت جموع المرضى الملقاة أرضاً في الجزء الأسفل.
  
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024