العونية الحبلى من ذاتها

رشا الأطرش

الخميس 2019/10/24
ما من لوحة نافست الفصام الذي امتاز به خطاب رئيس الجمهورية، ميشال عون، اليوم، إلا تلك التي نقلتها الشاشات من محيط قصر بعبدا، حيث تجمع العونيون لنصرة رئيسهم. انفصال تام عن الواقع ونبض البلد وشعبه، داخل القصر، وعلى بابه، وفي مقر "التيار العوني". عزلة اختيارية مدهشة، إنكارية، ونابِية في عمق معناها السياسي والوطني قبل مفرداتها. 

خطاب عون في حد ذاته عصيّ على التحليل والتفكيك، لافتقاره إلى كل العناصر اللازمة: السياسة، القيادة، المسؤولية، التكتيك، الاستراتيجيا، التفاعل (ولو المصلحيّ) مع الأرض، الطرح التغييري (مهما كان ضئيلاً) الخاضع لاستحقاقات اللحظة، الاستجابة بحلول منطقية أو على الأقل تتسم بشيء من المعقولية القادرة على فتح باب التفاوض مع أكثر من مليوني لبناني في شوارع البلاد من شمالها إلى جنوبها. باختصار: ليس من ملمح لأي حياة في خطاب بدا موميائياً. لكن الأرجح أن له صفة وحيدة، من بعد سورياليته: أنه الصورة الرسمية الديناصورية للوظيفة العونية الراهنة. هذه الوظيفة تتمثل في صياغة خطاب الثورة المضادة المشتهاة، هكذا: "هذه الثورة ليست ضدنا لأننا الثائرون قبلكم، دائماً نحن قبلكم، صرختكم كان يجب أن تكون فرحاً بما تحقق من إنجازات، عودوا إلى اقتراحات القوانين التي تقدمنا بها نحن منذ سنوات، اضغطوا على نوابكم لينفذوا ما اجترحناه نحن، ومجدداً قبلكم، لأننا الأصحّ والأدقّ والأنظف والأنبل والأكثر وطنية وحرصاً على القضاء والبلد، لولا العراقيل والمعرقلين من شركائنا! ولولا طائلة التقليد لقلنا أننا أشرف الناس والحمدلله أننا دائماً على حق. وأخيراً، النظام لا يسقط في الشوارع لأن كل شارع لا نحضر فيه، ليس شارعاً ولا شعباً ولا لبنانياً ولا عظيماً، تكتّلوا، لا تستمعوا لأحد، وتقيأوا ما في بطونكم على الجميع".

لا أحد في السلطة الآن قادراً على مهمة تركيب خطاب الضد إلا العونيين، بصرف النظر عن "كفاءة" الخطاب هذا وفاعليته، ورغم وُحُول "كلّن يعني كلّن".

سعد الحريري يبدو اليوم موظفاً في السلطة – شركته المساهمة الوحيدة العاملة. حصته من المال السياسي نضبت. مؤسساته تقفل وموظفوها لم ينالوا حقوقهم. قاعدته، إلى جانب مؤيديه من خارج طائفته، مخذولون بتسوياته المتلاحقة في السياسة والاقتصاد والدولة. ومَن حلَبَ هَبَّتي 14 شباط و14 آذار 2005 حتى القطرات الأخيرة، لا يسعه أن يُجابه انتفاضة 2019.

أما "حزب الله"، وإضافة إلى سلاحه الذي يثقل خطابه الفولاذي، واستراتيجيته المعروفة في الترقب وانتظار الوجهة النهائية للريح قبل الضرب بيد من حديد، فلا يملك العُدّة اللازمة لمخاطبة جموع اللبنانيين من الطوائف والمناطق كافة، ولا للتوجه إلى ثورة تقودها بشكل أساس الطبقة الوسطى المدينية من كل الطوائف، يرفدها فقراء تزيدهم حروبه وسياساته انسحاقاً وتهميشاً. كما أن الحزب، اليوم، في موقع غير مسبوق، في تاريخه وتاريخ لبنان، لجهة إمساكه المباشر والكامل للسلطة في لبنان، ومن ضمن هذا الاستحواذ تحالفه المتزامن مع عسكرها، ومع أوليغارشيتها المالية والاقتصادية التي لا يستهان بتأثيرها في النظام والحكم. وهذا موقع يملي عليه توخي المزيد من الحذر.. وإن فَلتت على المنتفضين اللبنانيين قطعان الدراجات النارية كضربات تحذيرية وتجريبية. والأهم، أن "حزب الله"، هذه المرة، يفشل في تصدير التهمة المكرورة عن مدعومين من أميركا وإسرائيل والخونة من الحكام العرب. وإذ حاول نائبه حسن فضل الله، العمل بأدوات محلية لا يجيد استخدامها، فحمّل "المؤامرة" لحزب "القوات اللبنانية" المستقيل من الحكومة، بدا كلامه، فوق كاريكاتوريته، خدمةً للعدو المفترض الذي يستطيع تحريك لبنان بأسره. 

أما وليد جنبلاط ونبيه بري، فهما خصما العهد وشريكاه في آن واحد. والإثنان يفضلان الآن لعب دورهما المفضل خلف الكواليس بمحاولة اجتراح المبادرات والحلول، علّ العهد يسقط بجزئيته المزعجة، فيتمددان بجزئيته الضامنة.

بيد أن العونيين، بحسب زعمهم، ورغم جلاء الأكاذيب، ما زالوا يحاولون تقديم أنفسهم على أنهم أصل العابرين للطوائف، أن الطبقة الوسطى وأصحاب المهن الحرة عمودهم الفقري، وأنهم أصحاب تاريخ في "النضال الوطني الداخلي". يسوقون أنفسهم باعتبارهم العصَب المسيحي الأقوى، وتحالف التشاطُر مع الشيعة المهيمنين، ورُعاة صفقات الفهلوة الأكثر متانة مع سُنّة الدولة. صورتهم الخلفية يفترض أنها مؤسسة الجيش التي ما زالت تحظى بإجماع لبناني، ولا ماضي مليشيوياً معروفاً لهم، وإن تمكنوا من سائر غوغائيتها اللغوية والعُصبوية. يمثلون التلاقح الهجين بين انفتاح (سطحي) على القيم الغربية، وبين التقاليد (المُحافِظة والبطريركية والذكورية العميقة)، ولبنانوية جذرية (شوفينية وعنصرية)، وواجهة "الأقليات المشرقية" العارفة طريقها. وهي التركيبة التي يعتبرونها تخولهم الرد على الآخرين مجتمعين.

لكن المشكلة أن الخيال العوني يتخبط الآن، يقع في أفخاخه الذاتية، ويتمرّغ في عُصابِه المتفاقم إكلينيكياً. فما اكتشف "حزب الله" نفسه عدم جدواه من الاتهامات، يتبنّاه العونيون الآن من دون أدنى مخيلة أو ابتكار: السفارات، التمويل، الزعران، المليشيات، قلة الأدب، التكسير ودخان الإطارات المشتعلة، بل وفلَتان الصبايا! العَونية، قبل أيام، كانت ميشال شيحا السلطة وأقطابها، بالنسخة الرثة، واليوم انحطّت إلى "الفنان" سمير صفير بعدما كان مستحيلاً تخيل المزيد من الانحطاط في الصفوف الأمامية.

أما الشتيمة التي أطلقها المتظاهرون تحرراً ووجعاً وصرخة، فقد عادت عند العونيين مجانية، محصورة في بذاءتها، بلا أي معنى أضافي، ومجدداً بلا أي مخيلة تجترح هتافاً خاصاً، تماماً كما فعل "منحبكجية" بشار الأسد وحزب"البعث". في أحسن الأحوال: "هيلا هيلا هو.. ميشال عون منحبك".. وفي أسفل دركها: "هيلا هيلا هو، جبران باسيل نـ(..)ك أمهنّ".

العونية اليوم في خطابها الذي تصوغه تصاعدياً، منذ أسبوع، تتكشف في هيئة "هيرمافروديت" وقد أصيب/ت بمسّ اللحظة التي طالت أكثر مما يحتمل القطيع المحتقن. ذكورةُ أفكارِها وأنثويتُها، في آن واحد وجسد واحد. لا تُنجِب إلا من ذاتها. ولعل الشقّ الأنثوي من الـ"هيرمافروديت" هو الأكثر بروزاً واعتلالاً في آن. فالصبايا العونيّات اللواتي احتفلن بـ"النصر الإلهي" بعد حرب تموز المدمرة، بالبلوزات القصيرة والأجساد الموشومة الظاهرة من تحت الجينزات منخفضة الخصر فيما الأعناق الملفوفة بأعلام "حزب الله"، يُعِبن على المتظاهرات اليوم "انحلالهن". "الصحافية" العونية، سكارليت حداد، تساءلت كم من المتظاهرات سيخرجن من الانتفاضة حوامل، متناسية أنها الاتهامات نفسها التي وجهت للعونيات في تظاهراتهن السابقة، ليتجلّى كيف أن حتى النساء العونيات.. ذكوريات! يزايدن على وزراء ونواب يحتقرن زميلاتهن ويخاطبنهن "بالشرف" بدلاً من السياسة. تلفزيون "أو تي في" الذي تحيي الراقصة "سماهر" برامجه الترفيهية، يرسلها للساحة في محاولة "لترخيص الجو" (فهل يعتبر ترفيهه التلفزيوني رخيصاً أيضاً؟ ومشاهديه رخيصين؟). والتيار الذي لطالما قال نحن الانفتاح واللغات والأقليات التي تكافح التطرف (السنّي دون غيره طبعاً)، ونحن الشارع واحتفالاته واحتجاجاته ودخانه وضحاياه، يعيبون على ثوار اليوم غناءهم ورقصهم وشِدّة أزرهم في وجه الاعتقالات من جهة، و"شبيحة" الدراجات النارية وشرطة البلدية من جهة ثانية.

التيار الذي يستحكم مع حلفائه بالسلطة، فشل في التعامل مع حرائق البلد الأخيرة وخسائرها وضحاياها، ثم استنكر إقفال الطرق وتلويث البيئة بالإطارات المشتعلة، و"الشحتار" الذي دخل البيوت النظيفة. التيار الذي يرفع شعار المحاسبة والمساءلة ودولة القانون والمؤسسات، يكتب أنصاره في "فايسبوك" أن ثوروا على زعمائكم، أنا رئيسي نظيف و"مش كلن أبداً مش كلن" مع هاشتاغ #بدنا_نحاسب_السراق. ثم نعود إلى المقرّر واللازمة: بابا الرئيس، بابا نعانقه، بابا نسمع كلمته، ويا بابا هؤلاء المتظاهرون من شعب الرتش.. كم أنهم بلا تربية، كم يحتاجون أن تقلِب بطونهم على ركبتيك وتصفعهم بما يوعيهم. ويا لَحفلة الجنون المشتعلة في الهيرمافروديت!

لحظة اختتام هذه السطور، بدأت تتوالى أخبار عن اعتداءات واستفزازات أنصار "حزب الله" للمتظاهرين في ساحة رياض الصلح. والعونيون مثابرون على شحذ خيالهم البلاستيكي باعتباره نصلاً قاطعاً.. في الحرب الأهلية التي قد لا يتورع "متفاهمو مار مخايل" عن إشعالها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024