العراق يبوح بسره: "من طهران يتبغدد علينا"!

تهامة الجندي

الأحد 2019/11/24
ينتفض العراق، ويبدأ كلامه بعبارة "أريد وطنًا"، و"نازل آخذ حقي"، وأنا ابنة الثورة المقهورة، أصغي إلى صوته العميق، وأستعيد الأمل وحلمي الذي مزقه الرصاص. أفتح الفضاء الأزرق، وأدخل عاصمة النور وأصل إلى ساحة التحرير، أصعد الجنائن المعلقة، وتأسرني ألوان الربيع. أحيي المتظاهرين، وأنثر ورودي عليهم، أغني وأرقص معهم، وأبكي كلما صادفت عينايّ شهيدًا.

ينتفض العراق، ويضيف إلى ساحات الربيع سحره الخاص، وفي كل يوم يدهشنا المنتفضون بمبادرات وأشكال تعبيرية خلاقة للاحتجاج والمقاومة السلمية، تفصح عن رغبة جيل الشباب في الخروج من وحل الفساد وقمقم الطائفية، وتؤكد رفضهم القاطع لتسلط رجال الدين، وتدخل إيران في شؤون دولتهم. تستوقني صورة شاب يحمل لافتة كُتب عليها: "أكان الحاكم مسلمًا أم كافرًا، لا يهم، فالدولة وظيفتها توفير حياة كريمة، وليس ادخالنا إلى الجنة"، كما تستوقفني لافتة الصبية: "يتبغدد علينا وهو من طهران"، ويقفز قلبي فرحًا، وأنا أرى علم الثورة السورية مرفوعًا على نصب الحرية وسط بغداد.

أتابع بشغف حملة تنظيف الأمكنة المهملة وترميمها وتجميلها في ساحة التحرير، حملة أطلقها شباب الثورة بالتعاون مع عشرات الفنانين، الهواة والأكاديميين، وعلى نفقتهم الخاصة، وأعادت الحياة إلى "برج المطعم التركي" المهجور منذ سنين، وجعلته مركزاً للقاء والتنسيق والتثقيف ورصد تحركات رجال الأمن والشرطة، وأحالت النفق المظلم تحت الساحة إلى فضاء مسكون بالألوان الزاهية، والرسوم المعبرة عن أحلام المتظاهرين ويوميات الانتفاضة. وحين حاولتُ التعرف إلى مبدعيّ الجداريات، لم أعثر في وسائل الإعلام سوى على ثلاثة أسماء: زهراء عادل ومحمد عبد الوهاب، وفاطمة حسام رسامة النسخة العراقية من لوحة ناومي باركر الأميركية التي اشتهرت إبان الحرب العالمية الثانية.

وفاطمة ليست الوحيدة التي أعادت إنتاج إبداعات عالمية بأسلوب يحاكي واقع الانتفاضة، ثمة تجارب جميلة أخرى كالنسخة العراقية من أغنية المقاومة الإيطالية ضد النازية "بيلا تشاو"، التي أنتجها غروب "ما بعد الظلام المسرحي" وأهداها لجرحى وشهداء العراق، ونسخة الموناليزا التي تطل على ساحة التحرير من تصميم نور الدين، إلى جانب العديد من الأعمال الفنية الجديدة التي تدعم حراك المتظاهرين كأغنية "نازل آخذ حقي" للفنانة رحمة رياض.


أقرأ منشورًا على الفيسبوك يتغزل بـ"التُكتُك"، وأستوضح محرك البحث "غوغل" عن المعنى، ويفاجئني بأنها واسطة نقل شعبية ورخيصة. كانت مصدر إزعاج وتلوث، وتحوّلت إلى إحدى أيقونات الثورة، بعد أن سخر أصحابها وسائطهم لتلبية احتياجات المتظاهرين من مدّهم بالطعام والماء والإسعافات الأولية، وحتى نقل المصابين إلى المستشفيات. وحين نظرتُ إلى الصور المصاحبة للشرح، وجدتُ عربات صغيرة وقديمة بمقعدين، مزيّنة بالعلم العراقي، ولافتات تدعم مطالب الثورة من قبيل: "الله محبة"، و"نازل أنقل جرحى وحتى حقي ماريده". كذلك قرأتُ أنه للتعبير عن الامتنان والتقدير لجهود "التُكتُك" كُتبت لأجله القصائد، وصُممت على شاكلته قمصان وميداليات خشبية وفضية، كما سمعت أغنية حسام الرسام الجميلة "أبو التُكتُك وقف وقفة بطولة".

لم تشأ السلطة الحاكمة أن يمر هذا الجمال بلا عقاب، ومنذ الساعات الأولى لانتفاضة العراق كانت أجهزة التأديب حاضرة للانقضاض بوحشية على المتظاهرين، وكم راعني مشهد القتلى الذين يخرج الدخان من رؤوسهم، بعد أن اخترقها نوع قاتل من القنابل المسيلة للدموع، لم يسبق استخدامه من قبل، أُنتج في إيران وصربيا، وأُرسل إلى الحكومة العراقية عبر بلغاريا، وفقًا لما جاء في تقرير "منظمة العفو الدولية".


كذلك شملت حملات التأديب عمليات القنص والقتل بالذخيرة الحية والاعتقال، بحيث وصل عدد القتلى إلى ثلاثمئة، وعدد المعتقلين إلى قرابة الألف متظاهر، قبل أن تكمل الانتفاضة شهرها الثاني، وكان من بين المعتقلين الذين أُفرج عنهم: المدوّن شجاع الخفاجي صاحب موقع "الخوة النظيفة"، ومراسل قناة دجلة زيد الفتلاوي، والصحافي أحمد الركابي، والطبيبة صبا المهداوي، والناشطة ماري محمد. كما قرأتُ عن محاولة اغتيال بطل كمال الاجسام مشتاق العزاوي، وعن مقتل الناشط صفاء الراي. وكي لا تنتشر أخبار الجريمة، عمدت السلطات العراقية إلى حجب تطبيقات التراسل، وقطع الإنترنت مرارًا ولفترات طويلة، وهو ما أكدته تقارير منظمة "هيومن رايس وتش" ومنظمة "مراسلون بلا حدود".

يتعرض شباب الساحة كل يوم لجميع أشكال الاعتداء والتهديد والتشهير، لا لذنب سوى أنهم يطالبون بحقوق المواطنة، ويكشفون عن وجه العراق المدني الأصيل، الذي كان ينبغي له أن يشرق فور سقوط ديكتاتورية صدام حسين، ويغدو منارة الشرق الأوسط منذ سنين. وأنا أتأمل ملامح الوجه الجميل بكل ما لديّ من طاقة على الحب والتضامن، وأتمنى له أن ينتصر، ويكنس غبار حكومة فاسدة، تآخت مع نظام الملالي، ودعمت نظام الأسد، وأسهمت في قتل السوريين، قبل أن تفتح النار على العراقيين. 
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024