دُمّر مزاج الستينات.. ففازت فيروز على صباح

فادي العبد الله

الأربعاء 2014/11/26

مضى سبعون عاماً على ظهورها الأول على شاشة السينما المصرية، فيلم "القلب له واحد" المصور، بحسب ما يروى، العام 1944 والمعروض في السنة التي تلتها. كانت قاصراً آنذاك، لكنها غنت للسنباطي، كبير الملحنين، مثلما غنت لاحقاً لكل الملحنين البارزين في مصر ولبنان، من محمد فوزي وعبد الوهاب وفريد الأطرش وبليغ حمدي إلى الرحابنة وفيلمون وهبي. كانت السينما المصرية آنذاك تبحث عن امرأة مغنية قادرة على ان تشكل النجمة الجديدة، وكانت اللبنانيات مرشحات دائمات، فاشتهرت صباح ونور الهدى، وظهرت نجاح سلام قليلاً مع محمد سلمان، في حين كانت زيارات مغنيات آخريات كوداد عابرة.

والحق أن صباح جسدت تماماً صورة المرأة اللبنانية في عيون المصريين، ببياضها وشقرتها كما بتحررها وغنجها وجرأتها، مغناجاً من دون براءة شادية مثلاً. ربما كان هذا سبباً لعودة صباح إلى لبنان نهائياً في آخر السبعينات حين بلغت الخمسين من السنين، بعدما كانت أقامت جسراً بين القاهرة وبيروت، محققة انجازاً مذهلاً في اقامة مسيرتين ناجحتين فنيتين شبه مستقلتين آنذاك ما بين السينما المصرية والأوبريات المسرحية اللبنانية. وربما كان هذا أيضاً سبباً لبقاء محبتها الراسخة في مصر، خلاف ما صارت عليه الحال في لبنان.

في لبنان، كانت الشحرورة، الطالعة من وادي شحرور، عالقة في منافسة طيلة عشرين عاماً مع فيروز، الصاعدة بعدها بعقد من السنين. ورغم تعاونها مع الرحابنة، إلا ان هويتها ظلت مختلطة ما بين الغناء الجبلي والشعبي اللبناني وبين الأغنيات السينمائية المصرية، ولم يبد عليها توجه نحو الأغنية الرحبانية الرومانسية التي شكلت صورة فيروز المنزهة عن الزمن وعن الرغبة.

على العكس من ذلك كانت صباح، ذات الصوت الهائل الذي لا يهاب أحداً ولا حتى وديع الصافي، تحيا باستمرار في لحظتها الحاضرة وترفض تعليق الزمن أو الابتعاد عنه. لهذا كان هناك مجال واسع للغناء الزجلي وبهوراته، ومجال أوسع للضحك والنكات في أغانيها، كلاماً ولحنا لا سيما مع فيلمون وهبي، مثلما كان هنالك تعلق بحقيقة البلاد والعيش لا بصورتهما الموهومة. ففيروز، إن غنت لمشغرة، بعثت بها إلى زمن تأسيسي لا يطال، مثلما تحول الجنوب أرضاً اسطورية موهومة، وإن غنت لحبيب (عدا أغانيها المتأخرة مع ابنها زياد) تحولت أغانيها، صوتاً وكلاما ولحنا، بحثاً عن تنزيه الحب عن كل رغبة وغريزة وجسد. على العكس من كل ذلك كانت صباح، إن غنت لبيروت، عددت أحياءها حيّاً حيّاً، من البسطة إلى الأشرفية مروراً بالصنائع وباب ادريس، وإن غنت للبنان حتى في أغنية تزعم الرغبة في دزينة من العرسان، عدّدت قراه ونواحيه، ناحية ناحية، من الأرز إلى سوق الغرب فمغدوشة ويحشوش (على شاكلة وديع الصافي). كذلك كانت صباح عاشقة وغلبانة في مصر، لكنها كانت أيضاً تلك التي تغني "الله يقصف عمر الحب وعمر ال بتصدق رجال" وتغني "جوزي ما بيلفي عالبيت". وهي التي توازن غناءها حين يحن إلى الضيعة باستذكار الفقر وعناء الحياة فيها ورغبتها في حياة المدنية ورفاهها (كما في مغناتها مع وديع الصافي). وهي التي، إن غنت لابنتها، لم تحاول ان تنيّمها برتابة الايقاع، بل سألتها "أكلك منين يا بطة" أو تغنت بخفة دم وروح صبيتها الحلوة.

وهي من يدرك حرقة الرغبة وفورانها، فتدعو عبدو كي يتزوج ويتركها مثلما تدعو عبود إلى أن يرقّصها ويغمزها. حتى في أحاديثها الصحافية ورواياتها عن مذكراتها، التي كتب عنها قبل سنوات محمد أبو سمرا قراءة سوسيولجية لافتة، كانت الصبوحة دائمة الصراحة ومفاجئة الجرأة، في اعلان حبها لنفسها ولأغانيها، وفي حديثها عن الجنس والنزوات وإعجابها بجمال الرجال من دون تخفي الفنانات العرب عموماً وراء الكلمات الوسيعة الفارغة. وفي علاقتها مع الرجال كانت الصبوحة الدلوعة فائقة الكرم، ليس فقط بالمال، بل أيضاً بالشهرة، فمن سيذكر سعادة النائب جو حمود، أو الفكاهي وسيم طبارة، أو الراقص فادي لبنان، لولا أن صباح ألقت عليهم بعضاً من نجوميتها وألقها، وأبت أن تختفي يوماً خلفهم مثلما رفضت أيضاً اخفاءهم مثلما فعلت أم كلثوم.

في نهاية الأمر تبدو صباح محبوبة الجماهير حقاً، لكن هذه الجماهير تحب صباح أكثر من أغانيها بعكس تعاملها مع فيروز. والمقارنة بينهما حسمت لصالح فيروز في آخر السبعينات، لا لصالح الصوت بل لصالح الدور الذي تؤديه فيروز. فصباح لم تصلح أمّاً كفيروز الوطنية، ولا حبيبة منزهة عن الزمن، كما لم تستطع صباح بسبب هويتها المصرية/اللبنانية، وأدائها الضاحك والساخر والصريح، حسم تلك المنافسة حين كانت في عز نجوميتها. الأمر تطلب حرباً كاملة دمرت المزاج اللبناني الستيني، كي تفوز فيروز، التي لم تكن لتربح أمام من تفوقها جمالاً وصوتاً وحضوراً وغواية وشعبية وشهرة ونجومية سينمائية. لماذا تم تتويج فيروز إذاً، بالتحديد في لبنان؟ أولاً بسبب مسألة الهوية التي صاغها الرحابنة والتي كانت مثار انقسام لم ينته إلا بوصول الحرب إلى مرحلة افلاس مشاريع الجميع وحنين الكل إلى وهم الهوية بمفاتيحها الرحبانية التي لا تكتفي بالغناء الجبلي أو المصري، اللذين أدتهما وفضلت بينهما صباح، بل تزعم تلك الهوية السيطرة على تيارات متنازعة (من البيزنطي إلى الحلبي إلى الأوروبي، فضلاً عن المصري واللبناني الجبلي) ودمجهم في مشروع واحد. ثم إن زمن الحرب كان زمن الحاجة إلى صورة أم حاضنة مثلما كان زمن الحاجة إلى التفجع والتراجيديا الفيروزيين، في وقت كانت قدرات صباح الصوتية تتراجع فيه كما جاذبيتها بحكم العمر، بحيث بات حضورها يذكر بماضيها الجميل، ويناقض حاضره، حتى انسحبت تماما. وإلى الفصام اللبناني وعقدة "الفن الراقي" الذي تعتبر فيه الكلمة "الشاعرية" المعيار الفصل، وهنا تميل الكفة لصالح الرحابنة وسعيد عقل في مواجهة عبد الجليل وهبي وشفيق المغربي.

ينبغي أن نضيف أيضاً أن الجماعات اللبنانية غير الجبلية لم تكن بالضرورة مؤهلة لاستقبال الجرأة الصباحية المتحررة، لذا ستظل صباح رمزاً لتحرر الجبل اللبناني آنذاك مجتمعاً وأخلاقاً كما لحدود توسع هذا التحرر خارج منبته إلى الجماعات اللبنانية الأخرى. ينبغي أن نضيف أيضا انتهاء عهد الدلع الذي هو السمة الصباحية الأساسية، باندلاع العنف وانفلات الغرائز الهوجاء وانفلات الآمال الخلاصية معاً، كل تلك عوامل آذنت بانتهاء المنافسة الصباحية الفيروزية لصالح الأخيرة، لكن أحداً لا يعلم الغيب والآتي.

والدلع الصباحي مربك للذكورة العربية عموماً. فهو، وإن لم يقع في الحرية الجنسية (رغم فيلمها الباريسي وأجساده شبه العارية)، إلا أنه يموضع الغواية على حافة التحرر الغامضة. فدلع صباح دلع المرأة العارفة بجمالها والواثقة بغوايتها، بلا خجل، إلا المصطنع منه، للايحاء للرجل بدور ما وهي تعلم تماماً كيف يسعها أن تتلاعب بالرجال، لا أن تتحايل عليهم. كما أنه دلع المرأة المتقبلة لجنسانيتها، دون محاولة لاخفائها أو تعليقها. هي صباح المرأة التي تدعو الرجل إليها، بالضحكة والعيون والكتف العاري، فلا يسعه إلا الارتباك، كعبد الحليم حافظ في مواجهتها. أي صدى يردده صوت الرغبة المعلنة في مخيلة عربية تخاف شبق المرأة وتوكيده؟ أليس هذا أيضاً احد اسباب اختلاف جرأة شعراء صباح المصريين عن أندادهم اللبنانيين المنفتحين على لهو الحياة وضحكها؟

من كل ذلك ولدت صباح، هذه المحبوبة المرذولة، المنظور لها بإعجاب وبابتذال معاً، كما لو انها مارلين مونرو لو لم تمت شابة. هذه صباح، "مارلين العرب"، التي عشقت ذاتها وأغانيها وفساتينها ومتعتها وأبناءها، والتي وهبها الدهر حياة مديدة استمتعت فيها وبذخت قدر ما شاءت وطاب لها. لكنها باصرارها على حقها في الأضواء والمتعة حرمتنا لذتنا الأنانية في التفجع على سرعة عبور الجمال كما ذكرتنا مرة تلو أخرى بأجسادنا وبفعل الزمن فيها، وتالياً بالحاجة إلى الحنو الدائم عليها والرفق بها واشباعها متعاً بما يليق بها، وإن على حساب صورة المرء نفسه عن ذاته. مثل هذه الصباح تستحق ان يقيم دلعها فينا من دون ذبول، لأنها تحرض اجسادنا علينا مطالبة بدلع متواصل لا تقطعه إملاءات الرقابة المتعففة والطهرانية.


* رحلت الفنانة صباح فجر اليوم، الأربعاء 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، عن 87 عاماً.

 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024