راقية إبراهيم.. غريتا غاربو المصرية أم عميلة لإسرائيل؟(2-1)

أحمد شوقي علي

السبت 2019/06/29
في العام 1936، حدث أن تعاقدت الممثلة بهيجة حافظ مع ليلى مراد على أن تؤدي الدور الثاني في فيلم "ليلى بنت الصحراء"، لكنهما اختلفتا لأسباب مادية فسختا على إثرها العقد، فبدأت البحث عن فتاة أخرى تصلح للقيام بالدور شرط أن "تمتلك قوامًا ممشوقًا مثل ليلى مراد". وذات يوم صحبها ماريو فولبي، مخرج الفيلم -الذي أقالته من مهمته خلال التصوير، واستكملت بنفسها إخراج ما تبقى من مشاهده- إلى المسرح القومي لتشاهد ممثلة مغمورة هناك، تدعى راشيل إبراهيم ليفي، أعجبتها للغاية فتعاقدت معها فورًا، بعدما اختارت لها اسمًا سينمائيًا جديدًا هو: راقية إبراهيم!

تحتفل ليفي، أو راقية إبراهيم، لو كانت لا تزال على قيد الحياة، بعيد ميلادها المئة في 22 يونيو/حزيران، أو أنها احتفلت به فعلاً العام الماضي، أو في يوم آخر غير ذلك المذكور.. ذلك أن تاريخَي ميلاد ووفاة "غريتا غاربو" المصرية مجهولان، مثل معلومات كثيرة عن حياتها، سواء تلك التي قضتها في مصر، أو في أميركا التي هاجرت إليها بعد العام 1956، وهي الفترة الأكثر إثارة للشائعات في مسيرتها، بدءًا من تخليها عن جنسيتها المصرية وانتمائها للكيان الصهيوني وعملها مع الوفد الإسرائيلي في الأمم المتحدة، وانتهاءً بما أثير عن ضلوعها في اغتيال عالمة الذرة المصرية سميرة موسى في العام 1952.

حياة غامضة
يذهب الكاتب مجدي صابر، مؤلف المسلسل التلفزيوني "قلبي دليلي" الذي حكى سيرة حياة الفنانة ليلى مراد، إلى أن راقية إبراهيم كانت زميلة للمطربة المعروفة في مدرسة نوتردام، ويشير المؤرخ الفني أشرف غريب في كتابه "الممثلون اليهود في مصر"، إلى أنها من مواليد حي السكاكيني مثل ليلى مراد نظرًا لقرب المدرسة من تلك المنطقة، لا سيما أن راقية –إذا اطمأنينا إلى أن 1919 هو عام ميلادها- ولدت بعد ليلى مراد بعام واحد، ما يعني تقاربهما في الجيرة والعمر.

بدأت "غريتا غاربو مصر"، مثلما وصفتها مجلة "الكواكب"، نظرًا لتشابه نمط معيشتها الغامض بما انتهجته الممثلة الشهيرة، حياتها الفنية كومبارس في الفرق المسرحية الأجنبية التي كانت تزور القاهرة لتقدم فنها في مسرح دار الأوبرا، قبل احتراقه. إذ إن الممثلات اليهوديات تحديدًا كن في طليعة جيل المسرحيين الرواد لسد فراغ الأدوار النسائية، في ظل وقوف التقاليد الاجتماعية عائقًا أمام عمل المصريات في التمثيل، قبل أن تكسر كل من منيرة المهدية وروز اليوسف وفاطمة رشدي وغيرهن، هذا الحاجز الاجتماعي. وكانت راقية، إضافة إلى عملها كهاوية في المسرح، تعمل بائعة في محلات حي الموسكي التجارية، أسوة بقريناتها اليهوديات. ولما تكونت الفرقة القومية المصرية العام 1935، قام زكي طليمات، المدير الفني للفرقة وقتئذ، بضمها إليها بمرتب شهري ثابت قدره ثلاثة جنيهات، وكان هذا المبلغ كافياً لتوفير حياة مستقرة هادئة، لليفي التي اعتزلت وظيفتها كبائعة، وتفرغت للفن.

وخلال عملها مع بهيجة حافظ في "ليلى بنت الصحراء" رآها الفنان أحمد سالم، وكان مديرًا لاستوديو مصر، فتعاقد معها على أن تشاركه بطولة اسكتش سينمائي باسم "جزيرة الأحلام"، وكان نجاحها في تأدية ذلك الاسكتش دافعًا لتعاقد استوديو مصر معها كي تشارك نجيب الريحاني بطولة فيلم "سلامة في خير"، لكن نقطة انطلاقها الحقيقية نحو قمة الشهرة في السينما، جاءت بعدما أدت دور البطولة في فيلم "رصاصة في القلب" العام 1944، وهو الفيلم السابع في مسيرتها التي ضمت 19 عملًا سينمائيًا، لعبت أدوار البطولة في أكثر من 12 فيلمًا منها.

تعصب للصهيونية
وبحسب تقرير لمجلة "الكواكب"، نُشر في آب/أغسطس 1974، كانت راقية إبراهيم لا تظهر في المجتمعات العامة أو الفنية، ولا ترتبط بزملاء أو زميلات "الوسط الفني"، حتى أنه كثيرًا ما يُراهن "الذين يعرفونها أو تربطهم بها صلة ما في أن يجدوها خارج بيتها أو سهرانة في مكان عام". ولعل ذلك كان سببًا في اتهامها من قبل بعض الفنانين، بالعجرفة والتكبر والغرور، وهي اتهامات لم تكن بعيدة في ما يبدو عن مسامع راقية إبراهيم، التي كتبت في مقال لها نُشر في يونيو/حزيران 1950، تحت عنوان "ما لا تعرفه عن الفنانة راقية إبراهيم بقلم راقية إبراهيم"، تدافع عن نفسها ضد كل ما يطاول شخصيتها، إذ تقول: "تكره راقية تناول المشروبات الروحية، لكنها تندمج في الحفلات لا لتلهو، لكن لتجلس في صمت شديد تراقب البشر وتدرس أخلاقهم، وقد يبدو للناس أنها لا تراقبهم لأنها لا تنظر إليهم إلا من طرف خفي (...) وقد يقال عن راقية إنها بخيلة لا تدعو الناس إلى مائدتها، لكنها تتمسك دائمًا بقول الفيلسوف الصيني لينويوتن إن المأدبة نفاق بين شخصين...".

لكن هذا السلوك المريب في "مراقبتها" لمن حولها، قد لا يبدو مبررًا كافيًا (إن كانت تحاول درء تهمة التجسس مثلاً عن نفسها) لاتهامها بالتعصب للدعوة الصهيونية، التي لم تكن واضحة المعالم والأهداف في أوائل الأربعينات، ولا كافية لاتهامها كذلك بكراهية "الفنانات المصريات ما عدا اليهوديات منهن"، إذ إن تلك الاتهامات التي ضمها التقرير المنشور بعد حرب أكتوبر، والمتأثر ربما في خلفيته بالعدوان الثلاثي وهزيمة 1967، يورد مثالاً على تلك الكراهية بما ذكره من ترشيح يوسف وهبي لفاتن حمامة لأداء الدور الثاني في فيلم "ملاك الرحمة" (1946)، واعتراض راقية على ذلك الاختيار، وعرضها التنازل عن ألف جنيه من أجرها لو عدل يوسف عن ترشيح فاتن، وهو العرض الذي رفضه وهبي.

والواقع أن تلك الحادثة التي أوردتها "الكواكب" مثيرة للسخرية، لأن فاتن حمامة التي وصفها المحرر بأنها في عمر أولاد راقية إبراهيم، كانت تبلغ -أثناء تصوير ذلك الفيلم- 15 عامًا، فيما كان عمر راقية 27 عامًا، فكيف ستخشى فنانة على نجوميتها وهي في ريعان شبابها من مراهقة لا يمكن لها أن تؤدي أدوار الفتاة الشابة التي كانت إبراهيم تؤديها في ذلك الوقت؟

غير أن تلك الكراهية ربما ظهرت فعليًا بعد سنوات من ذلك الفيلم، عندما أشيع أن إبراهيم تقف وراء الشائعات التي أثيرت حول علاقة فاتن حمامة بعمر الشريف، وهي ما تزال متزوجة من المخرج الراحل عز الدين ذو الفقار. الأمر الذي دعا المخرج محمد كريم، صديق راقية إبراهيم المقرب، إلى التصدي للدفاع عنها، فخرج في تصريحات صحافية ليؤكد أنها تكنّ حبًا كبيرًا لزملائها في الوسط الفني، مستشهداً بمساعدتها للمخرج أحمد سالم الذي أُدين في قضية الخوذات المقلدة (وهي صفقة عقدها سالم مع الجيش المصري في الأربعينات إذ باع لهم خوذات اكتشف لاحقًا أنها غير مطابقة للمواصفات، وواجه عقوبة الإعدام لولا أن خُفف الحكم لاحقًا إلى ستة أشهر قضاها سالم في المستشفى بدعوى مرضه، وقيل إن أسمهان تدخلت لتخفيف الحكم عليه). وبعد أن "تنكّر الأصدقاء له (سالم)، إلا راقية إبراهيم نفسها التي أحاطته بالاهتمام منذ خروجه من السجن حتى أسندت إليه دور البطولة في فيلم دنيا".

عصفورة طليقة
ويرجع المؤرخ الفني أشرف غريب، والذي يعكف حاليًا على إعداد كتاب عن سيرة راقية إبراهيم، أسباب تلك الكراهية إلى دوافع الغيرة الفنية وحدها، قائلًا لـ"المدن"، إن "الخمسينات، كانت فترة تراجع نجومية راقية إبراهيم، في مقابل صعود جيل ثان من الممثلات أكثر شبابًا وموهبة منها، وفي صدارتهن فاتن حمامة".

وعلى الرغم من ذلك لا يبدو أن راقية إبراهيم، كانت مخلصة بشكل كبير إلى الفن، إذ أنها كانت تتخذه كوسيلة للتقرب من حياة أخرى تريد أن تحياها، حسبما تشير في مقالها الذي كتبته عن نفسها، وتقول أنها "سبق لها الاشتغال في المسرح مع الفرقة المصرية لمدة أربع سنوات، وكان كل أملها أن تسافر في بعثة فنية إلى أوروبا، فلما تعذر تحقيق أملها هذا، تركت المسرح إلى السينما". ويؤكد تلك النية، ما كتبه القاص والسينارست وليم باسيلي، في مقدمة حوار أجراه معها، بعد عودتها من رحلة علاجية في أميركا، قائلا إنه: "عندما ذاعت الأنباء بوصول النجمة راقية إبراهيم إلى أميركا، تهامست الأوساط الفنية قائلة (...) نحن نعرف راقية جيدًا إنها تعمل وتجد وتتعب لتحصل على المال كي تنفقه على رحلاتها إلى الخارج.. إنها تريد أن تكون كالعصفور الطليق.. يتنقل من مكان إلى آخر ومن فن إلى فن".

امتلكت راقية إبراهيم، رغم ما قد تبديه من عدم اهتمام كبير بمشروعها السينمائي، وعيًا لافتًا بماهية ذلك الفن، يكشفه ما صرحت به إلى باسيلي في الحوار الذي نشر في آذار/مارس 1953 –أي بعد نحو 8 أشهر من حادث اغتيال سميرة موسى في 15 أغسطس 1952- إذ تقول: "لاحظت مع الأسف، أن بعض أصحاب الأفلام، يفهمون أن "رفع مستوى السينما" لا يكون إلا بإخراج أفلام تنطوي على الجد الخالص، وعلى النصائح السافرة، والتوجيهات المكشوفة.. وهذا النوع من الأفلام ضرره أكبر بكثير من نفعه، ففضلًا عن أنه بعيد كل البعد عن الفن الصحيح، فإن الجمهور في جميع بلاد العالم "يستثقل" النصيحة السافرة، والتوجيه المكشوف القائم على "الخطب" (...) الجمهور المصري جمهور مرح، وبراعة الفنانين السينمائيين تتجلى في استغلال هذا الميل، والمزج بين الفكاهة الظريفة والعبرة والعظة.. إن فكاهة واحدة من هذا النوع قد يكون لها من الأثر أكثر من ألف خطبة وموعظة". وتضيف في موضع آخر حول رأيها في السينما الأميركية، إن "أهم أساس تقوم عليه السينما الأميركية هو "إنسانية الفيلم" إذا صح هذا التعبير، فهم حينما يخرجون فيلمًا، يحاولون إبراز النواحي الإنسانية في مختلف مشاهده، بطريقة إيحائية لا يراها المتفرج، لكنه يشعر بها تتغلغل في أعماقه، وهذا هو السبب الأساس الذي جعل الأفلام الأميركية أفلامًا عالمية، يتذوقها المصري كما يتذوقها الفرنسي والهندي والإنكليزي والياباني.. لأن "الإنسانية" لا تقتصر على صنف واحد من الناس.. ولك أن تتخذ مثلاً بارزاً من الفيلم الأخير لشارلي شابلن – الأرجح أنها تقصد فيلم "أضواء المسرح" "LimeLight" لأنه من إنتاج 1952- فالمعروف عن شابلن أنه "كوميديان" وقد دعاه بعض النقاد بـ"المهرج الفيلسوف"، لكنه في هذا الفيلم يصل إلى القمة من العظمة الفنية، فكل مشهد من مشاهد الفيلم بمثابة "لوحة فنية" رائعة تستهوي العقل، وتمس أوتار القلب".

وفضلًا عن أن تلك الإجابات تلخص رؤية راقية إبراهيم للفن، فإنها تحمل قدرًا من الانتقاد للتغيرات التي بدأت تظهر في السينما في تلك الفترة، فترة ما بعد قيام ثورة يوليو 1952. فهل كانت التغيرات السياسية والاجتماعية التي أعقبت حركة الضباط الأحرار، السبب في هجرتها من مصر؟ أم أنها كانت تنتقل إلى خطوة أخرى في مسيرتها المزعومة لدعم الصهيونية؟
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024