قلعة دراكولا... من الاسطورة الى السلعة

شادي لويس

الجمعة 2017/08/11
احتاجت الرحلة من بوخارست إلى بلده "بران" أربع ساعات، لكن الأمر كان يستحق تلك المشقة، فقلعة البلدة الجبلية الصغيرة، هي المقصد السياحي الأكثر شهرة في رومانيا على الأطلاق. كان مشهد طابور السياح الطويل أمام بوابة القلعة، وحركته البطيئة سببا كافيا للإحباط، إلا أن حجم القلعة الضئيل، ومعمارها شديد الفقر، مقارنة بالقلاع شديدة الضخامة والبهاء التي رأيناها بطول الطريق على قمم جبال مقاطعة ترانسيلفانيا، كانت هي السبب الأوقع لخيبة الأمل. تطلب الأمر ساعة أخرى من الانتظار حتى يأتي دورنا للدخول، كنت قد سليت نفسي خلالها بقراءة اللوحات الدعائية التي تعد بخبرة استثنائية من الرعب، وبمشاهدة الأطفال وهم يكشرون عن أنيابهم بهدف الاثارة، متظاهرين بأنهم من مصاصي الدماء.

لم أتوقع الكثير من الرعب، فدراكولا الذي تنسب إليه القلعة، أو على وجهه الدقة "فلاد المخوزق" الذي ألهم الكاتب الإيرلندي، برام ستوكر لخلق بطل روايته التي تحمل اسم مصاص الدماء الأشهر، لا توجد أدلة تاريخية على أنه كان مقيما في القلعة، فهو كان يحكم امارة والاكيا، وإن كان قد لجأ إلى ترانسيلفانيا لبعض الوقت أثناء حروبه مع العثمانيين، فربما لم يعرف بوجود القلعة بالأساس، أو أقام فيها لأيام على أبعد تقدير. لكن معرفتي بتلك الحقائق الكافية لفض غلالة الغموض والأسطورية من حول القلعة متواضعة الأهمية، كانت هي تحديدا سبب سحريتها، فما كنت أنتظره لم يكن الهلع، بل خبرة التحديق في المبني المؤسس بالكامل على أساسات من الاختلاقات التاريخية وطبقات من المخيال الأدبي والسينمائي الأحدث. 

في الداخل، لم يكن هناك من المعروضات ما يستدعي الاهتمام، فباستثناء صورة لـ"فلاد الثالث"، وبعض لوحات توضيحية فيها نبذات عن سيرته، وعن رواية ستوكر، وأفلام دراكولا، فإن معظم المقتنيات المعروضة كانت تعود ملكيتها للملكة ماري، سليلة العائلة الملكية البريطانية، وآخر ملكات رومانيا، والتي امتلكت القلعة هي وورثتها حتى إلغاء الملكية وإعلان النظام الجمهوري في عام 1947.

قبل نصف قرن من هذا التاريخ، وقبل أن يبدأ ستوكر في كتابة روايته "دراكولا" في عام 1897، والتي أسست صنفا أدبيا كاملا لمصاصي الدماء من بعده، كان قد أطلع على نقوش سكسونية، محفوظة في المكتبة الملكية في لندن، فيها وصف "فلاد المخوزق" بالوحش الذي كان يتلذذ بتعذيب أعدائه وشرب دمائهم. تأكدت تلك الصورة الوحشية عن "فلاد" المعروفة عائلته بلقب "دراكولا"، أي التنين، لدى ستوكر، بفضل صداقته للبروفسير المجري، آرمانيوس فامبيري، والذي أمده بمعلومات إضافية عن بطل روايته من واقع الوثائق الهنغارية. لكن ما وصل إلى ستوكر كان جانبا واحدا من القصة، فـ"فلاد" الذي حارب إلى جانب العثمانيين، وضدهم أيضا، وقاد حروبا ضد الاحتلال الهنغاري لبلاده، وضد الأقلية السكسونية التي انتقلت إلى رومانيا مع الهنغاريين وبفضل الحملات الصليبية الجيرمانية التي غادرت عكا إلى ترانسيلفانيا بهدف تحويل المهرطقين الأرثوذكس إلى الكاثوليكية، تشير إليه الوثائق الرومانية بوصفه بطلا قوميا، ونصيرا للفقراء والمظلومين.

لا يمكن اتهام ستوكر بعدم الدقة في تأصيله التاريخي لبطل روايته، فالأمر أبعد من هذا. فالوثائق الأوسع انتشار عن سيرة "فلاد" كانت مكتوبة بيد أعدائه الاتراك والسكسون والهنغاريين وبابوية روما، وبلغاتهم الإمبراطورية. فيما كان انتشار الوثائق المكتوبة بالرومانية عنه، مقيدا بفرادة تلك اللغة البلقانية الوحيدة ذات الأصول اللاتينية وسط بحر من اللغات السلافية، ومحدودة بالوضع الهامشي للناطقين بها عبر التاريخ. لكن هيمنة اللغة الإمبراطورية وسردياتها، لا تكتمل سوى بتسلحها بالتكنولوجيا. فلا عجب أن يكون كتابا ساسكونيا، مكتوبا باللغة الألمانية الدنيا، عن فظائع داركولا، واحداً من أكثر الكتب مبيعا، بعد اختراع آلة الطباعة في ألمانيا تحديدا.

تكتمل مظلومية "دراكولا"، في رواية ستوكر، ولغتها الإنكليزية، اللغة الإمبراطورية الأوسع هيمنة في التاريخ، ومنها إلى هوليوود، وتكنولوجيا السينما وماكينات صناعتها مفرطة الكثافة، ليتحول الدوق الروماني، الهامشي في أهميته تاريخيا، إلى الأسطورة الحديثة الأكثر رعبا، وتكثيفا للشر في العالم. ربما يكون من باب الصدفة أن المعالجة السينمائية الأولى لرواية ستوكر، كانت فيلماً ألمانياً من إنتاج عام 1922، وأن يكون بطل الفيلم الثاني عن "دراكولا"، في عام 1931 من بطوله، بيلا ليجوسي، الممثل المجري. فالأمر بالطبع لم يكن ثائرا تاريخيا مبيتا، ينتقم فيه السكسون والهنغاريون من سيرة عدو القرون الوسطى، بقدر ما هو عرض جانبي لهيمنة اللغات الإمبراطورية وتسليع تكنولوجياتها المكتوبة والمرئية على الشاشات، وكثافة استهلاكها المفرطة.

في الطريق إلى الخروج من القلعة، تشرح النبذة التوضيحية المعلقة بجانب الباب، أن ورثة الملكة ماري استعادوا ملكية القلعة بعد سقوط النظام الشيوعي، وتحولت إلى شركة مساهمة محدودة، هادفة للربح. غادرنا المكان، وكل ما تبقى منه في ذهني هو فكرة واحدة سخيفة، ربما "فلاد" كان سينتشي بكل تلك القصص المرعبة التي نسبت له زورا، فهو كان رجلا قاسيا بالفعل، لكن ما كان سيزعجه حتما هو إن يجد قلعته، وقد أضحت كنزا من الخيالات وتسليعها، يتربح منه ورثة الدم الأزرق، المنتسبون إلى أعدائه، السكسون. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024