..ومات صاحب السكين السويسري

روجيه عوطة

الإثنين 2019/06/03
ما عاد لميشال سير مطرح في زمننا، لذلك، حمل نفسه، ومات. لا مطرح له لأن الزمن هذا لم يكن يوماً مضاداً له أكثر مما هو الآن. فلازمته الخطابية، هي لازمة الانهيار، الذي يحذر منه الجميع، والذي صار له عِلم خاص، اي الكولابسولوجيا. كما أن لازمته الفكرية، التي تكاد تسيطر على كل صعيد من صعد معارفه، هي التي تطيح موضوعها، بتحطيمه، بتفتيته، كسبيل وحيد إلى دراسته، إلى إعلان جبروت فاعلها. أما لازمته الفلسفية، فهي، وقبل ان تودي إلى لازمة الانهيار وتنسحب أمامها، لا تتوقف عن إعلان الوصول إلى درب مسدود أينما كان، وفي بعض الأحيان، تبدو أنها ليست لازمة، بل مجرد إشارة استغاثة من شغيلتها. في هذا الزمن، عندما يسبق الانهيار تأكيد على الانسداد، وترافقه معرفة قوامها التقويض، لا يمكن لميشال سير سوى أن يموت، من دون ان يفعل ذلك ليحتج، أو لكي يقول كلمته الاخيرة.

ربما كان سير من الفلاسفة الذين سكنت عبارة مونتين قلوبهم، وصنعتهم، وهي أن الفلسفة ليست سوى تعلم للموت. سير تعلمها جيداً منذ البداية، ولهذا، وعلى طريقة مونتينية أيضاً، كان، وفي لحظات يأسه ومنها، مسروراً بكل شيء. لقد استقبل كل جديد في عصره، مدركاً كيف يقاربه بلا خوف منه أو تكبر عليه. استقبل العلوم وتطورها، استقبل الانفجار المعلوماتي، استقبل التمدد الشبكي، استقبل التقنيات من ألِفها إلى يائها، وذلك، بتكراره أنها تَعد بكَون الحروب التي عاشها ونشأ فيها، صارت خلفه. كان سير متفائلاً على الدوام، وكان يمارس لعبته المفضلة، اي الاعجاب، على الدوام. لهذا، زمنٌ تشاؤمي، ولا يحبذ الإعجاب على الرغم من وطأة  "ثقافة اللايك"، هو ليس زمن سير، الذي كان من قلة في العالم، قراءة أعمالها تشرح القلب مع انها لا تنكر إلحاح اي مشكلة من المشكلات التي تتناولها. فلا مبالغة في الاعتقاد ان قراءة سير اليوم هي نوع من الاختبار، واستفهامه: من في مقدوره أن يصدق كل هذا التفاؤل في حين انه محاط بكل كلام يفيد بالعكس؟ من في مقدوره ان يأخذ بتفاؤل سير في حين أنه، وكمتلقٍ، صار معتاداً على العكس؟

فلسفة سير، وفي جانب من جوانبها المتعددة، كانت ضد صناعة الاعتياد على التشاؤم، والغرق فيه بدلاً من المرور به فقط. قال مرة انه يتفلسف لكي يجعل الأناس يعيشون بطريقة افضل، وهذا، في شتى مقالب عيشهم. كان يتحدث عن أي شيء في هذا العيش، وكان يجد أن عظَمة الفلسفة تتعلق بكونها حديثاً واسعاً، شاملاً، متشعباً، عابراً، يصلح لتربية الماعز مثلما يصلح لحل مشكلة منطقية.

فالفلسفة، بحسبه، شبيهة بذلك السكين المشهور، سكين روبن، أو السكين السويسري، الذي يحتوي على عدد من الأدوات، التي تُستخدم لإجراءات مختلفة، متصلة ومنفصلة. على هذا النحو، الفلسفة هي هذا السكين، الذي من الممكن استعماله على أوجه كثيرة، والذي لا قيمة له سوى على هذا الأساس. ربما، من استعارة السكين هذه، تصح الإشارة إلى الأثر الشديد الذي تركه غاستون باشلار في سير، الذي، ومن اهتمامه بالعلوم إلى درايته بالتقنيات، أدرك كيف يتمسك به، ليظل صاحب "شاعرية احلام اليقظة" من منوريه.

استعمل سير سكينه حتى آخر أيام حياته، التي أمضى بعضها مع  تلاميذ صغار، لا يتعدى عمرهم الخمس سنوات، في مدارسهم بباريس، متكلماً معهم، ومحاولاً نقل بعض معرفته لهم. فالفيلسوف "لا يعلم الفلسفة فقط، إنما المعرفة أيضاً"، وهذا أيضاً ما كان على دراية به. وفي يوم من تلك الأيام، سأله تلميذ عما يفعل في حاضره، فأجابه انه لن يطيل البقاء، وانه سيتوارى قريباً. وهكذا فعل، تاركاً سكينه على الطاولة التي انكسرت بفعل ثقل ملف كبير عليها، عنوانه: النهاية. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024