عروس الثورة كانت تُدعى ساحة عبد الحميد كرامي

محمود الزيباوي

الإثنين 2019/11/04
هي اليوم تُدعى "عروس الثورة"، مع الانتفاضة التي تعمّ لبنان ومناطقه، وتحتضنها عاصمة الشمال، بأبهى ما يكون عليه الاحتضان. وكانت في ما مضى، أي منذ الأربعينات الاستقلالية من القرن الماضي، تُدعى ساحة عبد الحميد كرامي، إلى أنْ أُطلقت عليها تسمية "ساحة النور" في عزّ الحروب الصغيرة. 


في اليوم الأول من أيلول 1920، وقف الجنرال غورو، وسط البطريرك الياس الحويك ومفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا، في قصر الصنوبر، وأعلن في خطاب طويل قيام دولة "لبنان الكبير" التي ضمّت إلى جانب متصرفية جبل لبنان، صيدا وصور ومرجعيون وطرابلس وعكار والبقاع مع أقضيته الأربعة. رحّب المتصرّف نجيب بيه أبو صوان، بالجنرال الفرنسي في بدء الاحتفال، وقال: "في هذه الساعة المهيبة التي تدخل التاريخ لتدوين حقبة غير قابلة للإمحاء، بيروت زهرة سوريا، عاصمة لبنان الكبير، مستعيدة أنفاسها الحرة، تحيي فيكم راعيها وتحيي بشخصكم فرنسا المجيدة". 

أعلنت سلطة الانتداب، ولادة لبنان الكبير، وسط سجال سياسي صاخب استمر عقوداً. تزامن هذا الإعلان مع القضاء على استقلال "الدولة العربية" في سوريا، ورفضت الحركة الوطنية السورية وأنصارها في لبنان الاعتراف بالكيان اللبناني الناشئ. في أيار/مايو 1926، أُعلن رسمياً قيام الجمهورية اللبنانية، وانتخب شارل دباس رئيساً لها لثلاث سنوات، في زمن استمرّ فيه السجال بين أنصار الوحدة وأنصار الانفصال. روى فواز طرابلسي في كتابه "تاريخ لبنان الحديث"، أن رياض الصلح أعلن في صيف 1928 أن رئيس الوزراء الفرنسي أريستيد بريان وعده بضمّ لبنان إلى سوريا، واقترح إميل إده في المقابل ان تصير طرابلس "مدينة حرة" تحت الإدارة الفرنسية، "يُمنح سكانها المسيحيون الجنسية اللبنانية والمسلمون الجنسية السورية"، كما اقترح ان يُمنح جنوب لبنان حكماً ذاتياً، على غرار "دولة العلويين" و"دولة جبل الدروز" القائمتين عند طرفي "دولة سوريا". اختار الفرنسيون حلّاً آخر يرتكز على تعريف اللبنانيين بطوائفهم ومذاهبهم. وفي 1929، جرى تمديد ولاية شارل دباس إلى ست سنوات، وصارت الانتخابات النيابية تُجرى وفق المحاصصة الطائفية منذ ذلك الحين.

في هذا الخضم، تواصل السجال بين الاتحاديين والانفصاليين، وعلت الأصوات الداعية إلى الوفاق والتضامن كما تنقل الصحابة في تلك الحقبة. في هذا الخضم، أعلن رياض الصلح في صيدا "على ملأ من الناس انه لبناني انفصالي اذا كان أساس الكيان اللبناني استقلالاً حقيقياً"، كما نقلت مجلة "المعرض". فردّ المطران اغناطيوس مبارك، التحية، وحيّا رياض بك بخطاب سوري الهوى في دمشق، وقال: "إن الوحدة صائرة يوماً من الأيام، واللبنانيون سيكونون أيضاً في مقدمة طلابها لأن لا شيء يمنع الوحدة لا اللغة ولا التاريخ ولا التقاليد ولا العادات، لكن علينا ان لا نتعجل الحوادث. ان مصير الوحدة موقوف على ما يظهره شباب دمشق من المحبة والألفة والتضامن لبعضهم بعضا نصارى ومسلمين، ويجب أن يأتي يوم نصبح فيه لا نعرف بعضنا بعضا من اي دين نحن. في هذا اليوم بشّر الأمة بالسعادة". ورأت "المعرض" في تعليقها ان "اعلان رياض بك لبنانيته الاستقلالية أحدثت هذا الصدى عند المطران مبارك، اللبناني الصلب العود، فتكلم عن الوحدة وعن إمكان وقوعها وعن مطالبة اللبنانيين أنفسهم بها"، "وهكذا اصبح رياض بك انفصالياً وأمسى المطران مبارك سوريا موحِّداً، واحدة بواحدة، والفضل متقدم". بالتزامن مع هذه الوقائع، نشرت "المعرض" صورة للشيخ عبد الحميد كرامي، وقالت في تعريفها به: "مفتي طرابلس الذي ترأس مؤتمر الوحدة في دمشق، ذلك المؤتمر الذي قامت حوله القيامة وكان سبباً في الاحتكاك الجديد الذي يؤسف له بين اللبنانيين والسوريين".

ضمّت طرابلس العثمانية سبعاً وعشرين ناحية، امتدت من كسروان جنوباً إلى اللاذقية شمالاً والهرمل شرقاً، وكانت بمثابة الرئة الاقتصادية لحمص وحماه والداخل السوري. وتبنّى شبابها في زمن نشوء لبنان الكبير "رسالة قومية عربية تدعو للاتحاد القومي تحت لواء العروبة"، كما كتبت مجلة "الجمهور" في آذار/مارس 1936، في بداية عهد الرئيس إميل إده. في تشرين الثاني/نوفمبر، صادق المجلس النيابي اللبناني بالإجماع على "مُعاهدة الصداقة والتحالف" مع فرنسا، وتبعت هذا التوقيع سلسلة من التظاهرات الصاخبة في بيروت وطرابلس. رافقت مجلة "المصور" المصرية الحدث، وكتبت في تعليقها: "احتُفل بتوقيع المعاهدة اللبنانية الفرنسية يوم 13 نوفمبر الحالي، وقد حفل ذلك اليوم بمظاهرات الرضى والسرور، ومواكب الفرح والابتهاج بهذه المعاهدة. لكن لم تكد تمضي أيام حتى قامت مظاهرات الوحدة السورية احتجاجاً على المعاهدة، فأدّت إلى حوادث يؤسف عليها، ما دعا الحكومة اللبنانية إلى الاستنجاد بفرق الجيش الفرنسي السنغالي. وممّا يبعث على السرور، أن تنتهي هذه الاضطرابات سريعاً، وتتبادل الزيارات الودية بين أعيان الفريقين وكبارهم، ويسود التفاهم والوداد. ونحن نرجو مخلصين أن يدوم الوئام والسلام بن أبناء الأمة الواحدة ليعملوا متكافئين إلى ما فيه خير وطنهم". نشرت "المصور" مع هذا الخبر صورة للزعيم عبد الحميد كرامي، وقالت انه "أحد زعماء طرابلس الذي قبضت عليه السلطات أخيرا، وقد قامت على أثر ذلك مظاهرات عنيفة احتجاجا على اعتقاله".

في هذا السياق، نشرت "الجمهور" مقالة من توقيع ميشال أبو شهلا عنوانها "لتحيا الأمة ولتمُت الطائفية"، وحملت هذه المقالة صورة للزعيم الطرابلسي عبد الحميد كرامي، وأخرى للدكتور عبد اللطيف بيسار الذي اعتقل معه. كما نشرت "بمناسبة حوادث طرابلس الأخيرة" صورة قديمة تجمعهما مع المناضل عارف بك الحسن في معتقل أرواد سنة 1924. على أثر هذه الحوادث، دأبت "الجمهور" على نشر المقالات والكتابات التي تندّد بالطائفية. في نهاية 1936، كتب أمين الريحاني: "في ضعف الطوائف قوة للوطن. في التفكك الطائفي، تحقيق الآمال القومية. الحكومة المؤسسة على الطائفيات هي حكومة ظالمة مظلومة. كفاءتها ضائعة، وعدلها مقيّد بقيود أرباب الأديان. الحكومة الطائفية تظلمها الطوائف، وهي تظلم عندما تستطيع نكاية وانتقاما. الحكومة التي تقيس عدلها بمقياس طائفي، لا بمقياس العدل والكفاءة، هي حكومة بائدة، وان طال يومها أو نومها". وفي شباط/فبراير 1937، كتب صلاح لبكي: "تريد الطائفية الرجعية أن تدخل عندنا في كل شيء. فما ان نغلق في وجهها باباً حتى تدخل علينا من ألف طاقة. والغريب في هذا البلد هو أن الناس متفقون فيه على أن الطائفية كانت وما زالت الداء الذي يرعى في كياننا ويهدم. وهم على الرغم من هذه المعرفة يعملون باسم الطائفية ويثيرون نعرتها المؤلمة الموجعة في كل مناسبة". 

هدأ الصراع بين الاتحاديين والانفصاليين حين اشترطت فرنسا على الحركة الوطنية السورية الاعتراف بالكيان اللبناني قبل توقيع معاهدة تقرّ فيها باستقلال دولتي سوريا ولبنان، بعد دمج منطقتي الحكم الذاتي الدرزية والعلوية في الجمهورية السورية. ولد الميثاق اللبناني في تلك الحقبة من الصراع، وجاء بمثابة صيغة توفيقية تجمع بين الولاء القومي العربي والاعتراف بالكيان اللبناني. في أواخر عهد الانتداب الفرنسي، دخل عبد الحميد كرامي مجلس النواب اللبناني نائباً. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1943، اقتيد إلى المنفى في قلعة راشيا في البقاع، مع رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الوزراء رياض الصلح. وفي العام 1945، اختارته رئاسة الجمهورية اللبنانية رئيساً لمجلس الوزراء، وقال في بيانه الوزاري: "لست بالرجل الحزبي ولا يمكنني أن أكون ذلك الرجل، أنا رجل لبلادي لبنان المستقل في حدوده الحالية والمغتبط بالتعاون الى اقصى حد مع الدول العربية الشقيقة التي ترى كما نرى أن في مصلحتها ومصلحتنا جميعاً إن يكون لبنان مستقلاً استقلالاً تاماً. وإن الحكومة اللبنانية التي لي شرف رئاستها والتي تطلب ثقتكم بعد الثقة التي شرّفني بها وزملائي فخامة رئيس البلاد، تدين بمبادئ وطيدة لا تتزعزع، صيانة الاستقلال حيال جميع المحاولات أيا كان مصدرها، اذ لم يبق من يستطيع أن يجادلنا في قضية اصبحت في نظر العالم ونظرنا فوق كل جدال".

رحل عبد الحميد كرامي في خريف 1950، وقالت مجلة "الصياد" في الذكرى الثانية لرحيله ان طرابلس أحيت هذه الذكرى، "وشاركها لبنان كله في بعث حياة الزعيم الراحل واستعراض مآثره ومراحل جهاده وتضحياته في سبيل استقلال لبنان وتدعيم أركانه، فبعدما أنفق المغفور له زهرة شبابه يناهض سلطات الاستعمار بسياسته السلبية الرائعة، تحوّل في عهد الاستقلال إلى رجل بنّاء همّه أن يقيم دعائم الدولة الجديدة، ويوطد بنيانها ويجمع سكانها على الالفة والتناصر والمودة".

على وقع الهدير المزغرِد الذي يلفّ ساحة "العروس" اليوم، ومن خلال الصورة الحضارية التي تقدمها طرابلس إلى اللبنانيين جميعاً، نتذكر أنّ المستديرة التي لطالما كانت تصدح بأناشيد دعاة القومية العربية والوحدة مع سوريا وبأناشيد الاستقلال في زمن عبد الحميد كرامي، أو تصدح في مرحلة ما بأناشيد الإسلاميين، أو بأناشيد زعماء الحروب الصغيرة والمقيتة، باتت اليوم منارة الثوار والمنتفضين ودعاة الحرية والدفاع عن لقمة الخبز، وعروس الانتفاضات اللبنانية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024