محمد خضير... بمناسبة نوبل: هل ينبغي إعطاء كلّ شيء؟

المدن - ثقافة

الخميس 2021/10/07
(بمناسبة جائزة نوبل)
 يقول الكاتب النمساوي بيتر هندكه (نوبل 2019) في أحد حواراته (المجموعة في كتاب من ترجمة إسكندر حبش، دار خطوط وظلال، 2021): "ما أن نبدأ الكتابة حتى نجد أنها تريد شيئاً آخر؛ لا ترغب الكتابة في أن نعطي كلّ شيء".

ومقابل غوته الذي كان يمتلك "غريزة ألا يقدّم كلّ شيء" فإنّ كتّاباً ألمان، مثل كلايست وشيلر وغونتر غراس، كانوا غير قادرين على ضبط هذه الغريزة الوجودية المدمرة: أن تُعطي كلَّ شيء للآخرين. إنهم عباقرة، لكنّهم لم يصمدوا طويلاً. غونتر غراس كان عبقرياً، لكن لمدة ثلاث سنوات فقط في حياته، فيما ظلّ يقلّد هذه العبقرية فيما تبقّى له من العمر: "هذا أمر أتعس من الدادائية، تقليد عبقريتك خلال ثلاثين سنة" يقول هندكه لمحاوره. من يُعطي كلّ شيء لن يُعمَّر طويلاً، مثل آرتو وكلايست وتوماس مان وستيفان زفايغ، بل قد ينتهي الى الانتحار أو الجنون أو المرض. الكتابة تعمل ضد هذه الغريزة؛ عملُها يشبه الاسترخاء، روحاً وجسداً، بشكل كامل في السرير، يقول هندكه.

تنطبق هذه القاعدة على غالبية الفائزين بجائزة نوبل، والمرشحين الجدد لها -وأبرزهم ميلان كونديرا- لم يعطوا كلّ شيء، ينسحبون نحو أنفسهم المشتّتة، تختلف حولهم الآراء، بعدما كانوا نصف مغمورين في ظلال شهرتهم العبقرية (دوريس لسنغ مثلاً التي تنكرت لماركسيتها القديمة، بل هويتها النسوية، وقد دُهِشت لمنحها نوبل). غالبيتهم بلا وطن، منشقّون، يثيرون الزوابع والسَّخط أينما حلّوا. (بيتر هندكه نفسه: نمساويّ-سلوفينيّ، ناصر الصِّرب في حرب البلقان وكتب عن انحياز العدالة لمسلمي البوسنة ضد قومه، تجوّل في أوروبا واستقرّ في ضاحية بباريس أخيراً). هذا العنصر المركب من الهويات والأهواء، يكتب أنواعاً أدبية كثيرة (روايات، تقارير، رحلات) لكنّه يفضّل أن يتّبع غوته الذي عرف كيف يتراجع، ولا يُعطي كل شيء. 

ما الذي يعنيه "لا يُعطي كلّ شيء" هنا؟ ماذا يطلب هندكه من الكتابة كي لا تقول كلّ شيء؟ ماذا يتبقّى منها إذن؟

بالإضافة إلى غموض التعبير،  فقد يحيل القصد لأن يكون الكاتب طفلاً، لا يتطوّر، ولا يُغمض عينيه عن "البديهيات". ويستعير هندكه جملة غوته التالية لتوضيح فكرته عن "اللاشيء" أو الجزء من "شمولية كل شيء": "الرعشة_ التي_ هي أفضل جزء في الإنسان". وفي حوارات الكتاب الأخرى يعادل هندكه هذا الإحساس الغامض بالإيقاع؛ فالكتابة، عكس الكلام، نظام من الإيقاعات المتوالية، كالضوء والريح والمسافة بين شجرتين. 

ألتفتُ، الآن، إلى أدباء "اللاشيء" من كتّاب العرب، فلا أجِدُ أقرب إلى "رعشة" هندكه المستوفاة من غوته، غير عددٍ قليل من أصحاب الكِتاب الواحد، أولئك الذين أحسُّوا برهبة الكلمات، رهبتَهم من الصمت والايقاع الخفيّ لأقدام الحياة؛ وربما كان بعضهم في العراق من فئة قليلة جداً: يحيى جواد ونزار عباس وعبد الملك نوري... ولا امرأة من طراز دوريس لسنغ وفرجينيا وولف..

(*) مدونة نشرها الكاتب العراقي محمد خضير في صفحته الفايسبوكية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024