موقعة الجمل في لبنان

محمود الزيباوي

الثلاثاء 2020/06/09
يوم السبت الماضي، انتشر في مواقع التواصل في لبنان، شريط مصور علَت فيه هتافات طائفية تمس السيدة عائشة، وأدّى هذا الانتشار إلى حالة غليان في الشارع. وفي اليوم التالي، استنكر البعض هذا "الكلام المذهبي الذي خرج من مجموعات متفلته معلومة ومجهولة الانتماء"، ودعا إلى "إدانة الخطاب المذهبي المثير للنعرات الطائفية والتعرض للرموز الدينية". 


بين ليلة وضحاها، عاد لبنان إلى "موقعة الجمل" التي جرت في تشرين الثاني/نوفمبر 656، وهي معركة مأثورة في تاريخ الحروب الأهلية التي رافقت بدايات الاسلام وطبعت تاريخه على مدى قرون من الزمن. تُعتبر هذه الموقعة أول معركة خاضها علي بن أبي طالب في بداية خلافته، إثر مقتل الخليفة عثمان بن عفان، وقد حدثت في منطقة الخُرَيبَة من نواحي البصرة، واستمدّت تسميتها نسبة إلى الجمل الذي كانت السيدة عائشة تمتطيه، والمسمّى بعسكر.
بحسب الرواية الشائعة، كانت السيدة عائشة عائدة من أداء فريضة الحج، وسمعت بمقتل عثمان، فراحت تردد "قُتل والله عثمان مظلومًا لأطلبن بدمه"، ثم وافاها في مكة طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وراحوا يتباحثون في الأمر، وقرّروا تجهيز جيش والسير به إلى البصرة للأخذ بالثأر من قتلة عثمان. يُعتبر طلحة أحد العشرة المبشرين بالجنة، من السابقين الأولين إلى الإسلام، وقد دعاه أبو بكر الصديق إلى الإسلام، وشارك في غزوة أحد، ووقى الرسول بنفسه. كذلك، يُعتبر زبير أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو ابن صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول، وكان من أوائل الذين أسلموا، هاجر الهجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة، وشارك في غزو بدر، وعُرف ببسالته في القتال. 

ضمّ هذا الجيش في البداية نحو ألف رجل، وتضاعف هذا العدد عدة مرات، ولما اقترب من البصرة، أرسل واليها عثمان بن حنيف رسولين من عنده إلى عائشة وطلحة والزبير، يسألان عن سبب مجيئهم، فقالوا: "الطلب بدم عثمان"، فردّ وقال: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وأصرَّ على منعهم من دخول البصرة، فدارت بين الفريقين معركة عند موقع يُسمى الزابوقة، قُتل فيها نحو ستمائة رجل، فتنادوا إلى الصلح والكف عن القتال بانتظار قدوم الإمام علي إلى البصرة، وتُعرف هذ المعركة باسم "يوم الجمل الأصغر".

وصل الإمام علي إلى البصرة، وأرسل الصحابي القعقاع بن عمرو التميمي للتفاوض مع عائشة وطلحة والزبير، فاقترح عليهم تجديد البيعة لعلي ومقابلته، والبحث بعد ذلك فيما يصلح المسلمين، فوافقوا، غير ان الحرب اندلعت من جديد، وقضي فيها الآلاف من الطرفين، ويذكر الرواة أن هذه الموقعة كانت أكثر المواقع قطعًا للأيدي والأرجل. قُتل طلحة والزبير في هذه الحرب، أما عائشة، فأُخرجت من هودجها بعد أن تمّ عقر جملها، ونُصبت لها خيمة، وسألها الإمام علي عن حالها، فقالت: بخير. فقال: يغفر الله لكِ. فردّت: ولكَ. وعادت إلى مكة برفقة أربعين امرأة من أشرف نساء البصرة، وكان معها شقيقها محمد بن أبي بكر. وتخلّت بعد هذه الموقعة عن كل عمل سياسي.

يذكر ابن خلدون هذه الموقعة في مقدّمته الشهيرة ويقول: "وإذا نظرت بعين الإنصاف عذرت الناس أجمعين في شأن الاختلاف في عثمان، واختلاف الصحابة من بعد، وعلمت أنها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمة، بينما المسلمون قد أذهب الله عدوهم وملكهم أرضهم وديارهم، ونزلوا الأمصار على حدودهم بالبصرة والكوفة والشام ومصر". في الواقع، تبرئ الرواية السنّية طلحة والزبير، وتلقي باللوم على عبد الله بن سبأ، مشعل الاضطرابات والاحتجاجات ضد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، ومطلق حرب الجمل الكبرى إثر "يوم الجمل الأصغر". في المقابل، تدين الرواية الشيعية طلحة والزبير بشكل كامل، وتصفهم بالناكثين اللذين نكثوا بيعتهم للإمام علي، وتستند في هذه الإدانة على عدة أحاديث وردت في "نهج البلاغة".
 
في الخلاصة، كما يقول "معجم الإسلام التاريخي" في تعريفه بهذه الموقعة: "طُرح آنذاك السؤال حول صاحب الحق ن الفريقين، أو بالأحرى طُرح التساؤل عن كيفية تحديد أي من الفريقين كان على حق. والسؤال، كما طُرح، أثار جدالات عقائدية جديدة. وبالفعل، غذّت هذه المسألة طوال قرون تفكير علماء الكلام، وشكّلت إحدى القضايا التي تواجهت حولها معظم الحركات السياسية الدينية التي كانت في أساس نشأة شيع عدّة في الإسلام".

تكرّر ذكر موقعة الجمل في العديد من المؤلفات التاريخية والأدبية، ووجدت هذه الحادثة ترجمتها التشكيلية في مجموعة من المنمنمات المحفوظة في المكتبات العالمية. في صفحة من كتاب "مجمع التواريخ" لحافظ آبرو تعود إلى النصف الأول من القرن الخامس عشر، يظهر الإمام علي على جواده في موجهة عائشة في هودجها فوق الجمل المسمّى بعسكر. وفي صفحة من كتاب "روضة الصفا" لمير خاوند تعود إلى القرن السادس عشر، يتكرر المشهد بأسلوب يختزل جمالية الفن الصفوي. يأخذ هذا المشهد طابعا عثمانيا صرفا في منمنمة من مخطوط "سير النبي" الذي انجز في نهاية القرن السادس عشر برعاية السلطان مراد الثالث.
  
تظهر مراحل موقعة الجمل في سلسلة من المنمنمات في مخطوطات هندية من القرن التاسع عشر تستعيد منظومة "حملة حيدري" التي وضعها بالفارسية محمد رفيع المشهدي الملقب بباذل، ومنها مخطوط من محفوظات المكتبة الوطنية الفرنسية يعود إلى عام 1808، تزينه 241 منمنمة. في هذه السلسلة، تظهر عائشة في هودجها فوق جملها، ويتحوّل الإمام علي إلى كتلة من النار، وهي الصورة نفسها الذي يظهر بها الرسول في هذا المخطوط، وذلك تعبيراً عن الإكرام والإجلال.  
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024