ماتريكس وحسان دياب

محمد حجيري

الجمعة 2020/06/26
لا عمل لبروفيسور الحكومة اللبنانية سوى التنظير والخطاب الانشائي وتشكيل اللجان ومحاربة طواحين الهواء، والغرق في ألفاظ الإصلاحات والفساد، والبحث عن طرق جديدة للالتصاق بالكرسي. وهو يدرك أن حكومته عاجزة عن فعل شيء، وأن الأزمة مصدرها، ليس حاكم مصرف لبنان، ولا الحكومات السابقة (الحريرية وغيرها)، وإن كان لها دورها في مراكمة الدَّين العام... لا يجرؤ بروفيسور الحكومة على التصويب على جوهر الأزمة، الذي يكمن في المشاريع السياسية لبعض قوى الوصاية الجديدة، ويدرك، وتدرك معه أجنحة السلطة التي تغطي "سياسته" أو وجوده في الحكومة، أن استقرار سعر صرف الليرة، في جانب كبير منه، يتعلق بأموال المغتربين والمساعدات التي كان تصل الى لبنان من هنا وهناك، سواء البلدان العربية او الاجنبية...

يعلم رئيس الحكومة أن جزءاً كبيراً من الأزمة الراهنة في لبنان، سببه الأزمة الكبيرة في سوريا، وأن الحنفيات التي كانت تغدق المال السياسي والاقتصادي على لبنان، توقفت بسبب جموح الممانعين في صناعة العداوات والتوترات وهدم الجسور مع العرب والأجانب وسياسة القبضات المرفوعة وهتافات الموت للآخرين في مهرجانات "حزب الله"... ارتضى حسان دياب أن يكون رئيساً معزولاً عن العالم ويحاكي نفسه وصباغ شعره، وارتضت الممانعة أن يتولى البروفيسور رئاسة الحكومة، وهو لا يعرف إلا نفسه، ولا يبحث إلا عن صورته، ولم ينجز إلا الخطب الرنانة وفراغ الحياة اليومية، ولم ينفذ إلا أوامر جبران باسيل، وأثبت في كل محطة أنه حكومته ليست حكومة اختصاصيين ولا حكومة مستقلين. 

والبروفيسور الذي بدأ مشواره السياسي في الحكومي، بالحديث عن أشباح الحريرية التي تحاربه كما يزعم، وتغنى بتنفيذ 97 في المئة من بيان حكومته (يا للدقة)، لم يتردد لحظة عن القول إن" تثبيت سعر الصرف وهم"، وسرعان ما قال إن "الإسعار المرتفعة للدولار هي أسعار وهمية ومصرف لبنان هو المسؤول عن تثبيت سعر الصرف"، والقصد سعر الدولار المتداول (السوق السوداء). الصديق سامر شحادة كتب في فايسبوك: "عمليًا هناك دولار واحد وهمي، سعره الرسمي (غير وهمي) ١٥٠٧،٥. والباقي دولارات ورقية (غير وهمية) بكذا سعر وهمي. هيك فهمانة حكومة دياب الوضع النقدي".

كأن رئيس حكومة "مواجهة التحديات"، يعشق كلمة "وهم" وفصولها، أو كأنه يقول "الدولار لم يرتفع"، على نحو ما قال الفيلسوف الفرسي جان بودريارد "حرب الخليج لم تقع". بل إن حكومة حسان دياب في الواقع تشبه مشهداً من فيلم "ماتريكس"، إذ يسحب "نيو"، الشخصية المركزية للفيلم، كتاباً بعينه من خزانته، فنشاهد الكتاب في لحظة خاطفة وإذ به يحمل عنوان "النسخ والمحاكاة" لجان بودريار. وبتقليب "نيو" الفصل الخاص بالعدمية، نكتشف أن ما نراه ليس كتاباً كما يتراءى لنا، إنما هو علبة مجوّفة تضمّ أقراصاً للكومبيوتر. الكتاب ليس كتاباً. إنه "حقيقة زائفة"، وهذه حكومة مواجهات التحديات، التي يرأسها رئيس يعشق الوهم. والوهم بحسب "لسان العرب" لابن منظور: من خَطَراتِ القلب، والجمع أَوْهامٌ، وتَوَهَّمَ الشيءَ: تخيَّله وتمثَّلَه، كان في الوجود أَو لم يكن. وقال: تَوهَّمْتُ الشيءَ وتفَرَّسْتُه وتَوسَّمْتُه وتَبَيَّنْتُه بمعنى واحد؛ قال زهير في معنى التوَهُّم: فَلأْياً عَرَفْتُ الدار بعدَ تَوهُّمِ (* صدر البيت: وقَفْتُ بها من بعدِ عشرين حِجَّةً). وأَوْهَمْت الشيء إذا أَغفَلْته. ويقال: وَهِمْتُ في كذا وكذا أي غلِطْتُ. ثعلب: وأَوْهَمْتُ الشيءَ تركتُه كلَّه أُوهِمُ. والوهم في "الصّحّاح في اللغة" إذا غلطت فيه وسهوت. ووَهَمْتُ في الشيء، بالفتح أَهِمُ وَهْماً، إذا ذهب وَهْمُكَ إليه وأنتَ تريدُ غيره. وتَوَهَّمْتُ، أي ظننت.

يعشق رئيس الحكومة الحديث عن الأوهام، وهو يعرف أن لا حديث في الشارع اللبناني سوى السؤال عن سعر الدولار أو "الضولار" كما يسخرون منه، تداعيات انخفاض سعر الليرة أربكت كل شيء حتى البرغل أصبح سعره 6 آلاف ليرة... الحديث عن الجوع لم يعد مجرد كلام وعراضة لفظية، كثيرون في الأرياف يخزنون الزيت والقمح في منازلهم، الحديث عن البرادات الفارغة ليس مجرد صورة، بل هو واقع يومي، بعض محال المواد الغذائية واللحوم أقفلت تفادياً لمزيد من الخسائر، لم تعد تستطيع مواكبة اضطراب سعر الليرة، ما يبيعه التاجر الآن يتضاعف سعره بعد ساعات.. في الوقائع، الأمور ذاهبة نحو الأسوأ، المزارعون لا يستطيعون الاستمرار، بعض المواطنين يبحثون عن مقايضة ثيابهم بمواد غذائية، مدارس كثيرة تقفل، ومدارس كثيرة ستقفل... المجند في الجيش راتبه لا يتخطى 150 دولار، في الكواليس أناس يسخرون من بعضهم، بعض الموظفين يقولون أن المساعدة المنزلية(أو الخادمة) بات راتبها اعلى من راتب صاحب البيت في ظل ارتفاع الدولار...

بالمختصر، موت العملة الوطنية، هو موتنا جميعاً... والوضع مقرف الى درجة أن إحدى المحطات تستضيف المنجِّمة ليلى لتقول توقعاتها...
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024