في حاجة الأم سوريا وهي تخسر أُمَّاً

أدهم حنا

الثلاثاء 2021/11/16
من الجيد أن يكون ما حصلت عليه إيتل عدنان قبل وفاتها، هو بقاء صورتها. وجهها الحكيم الذي يميل بكلِّ ما فيه إلى أن يبدو طفولياً مع الجميع، بعيداً من الاستحقاقات والجوائز التي وازت فيها كبار شعراء القرن؛ مثل وسام الفنون والآداب الفرنسيَّة. لكن مُدرَكَاً حقيقيَّاً من الممكن ملاحظته في كتابتها وإيماءاتها الشكليَّة والروحيَّة؛ أن تكون طفلةً حادةَ الضجيج على الرغم من أنَّها قد بلغت التسعين من الحكمة والفهم، وكل هذا من دون أن تفعل شيئاً سوى أن تسرد شعراً أو أن ترسم، من دون أن يصيبها عصاب الكتابة بوصفها آلة وحيدة ليتنفس الكاتب ويعبر من خلالها عما يُريد بل هي شيءٌ من الفطرة البشريَّة وجزء من الحواس، تجلَّت فيها كلغة حديثة للفن والذات الإنسانيين. 
يمكن لنا في سوريا اللجوء إلى الوجوه حتى نشعر باليُتم الذي نحن فيه؛ اليُتم الذي يبدو فيه الكبار أذلَّاء ومتعبين وغير قادرين على مدِّ يد العون أو فتح طرق جيدة أمامنا. إنَّه يُتم الحماية والعاطفة، ويُتم اللغة التي تقتبس ذاتيتها التاريخيَّة من الأماكن وذكرياتها، كسر الخطابة والرَّطانة البلاغيَّة لكتابنا، وإمكانية أن نحبَّ لغتنا من دون أن نشعر بعبئها وعبء السلطة العنيفة التي تتحكم فيها؛ كلُّ هذا يستطيع السوريُّ المتابعُ المُجدُّ تعلُّمَهُ من إيتيل. وليس انطباعنا الحسيُّ هو ما يربطُنا بها، بل فلسفة التعبير التي تملكها وتقودنا نحو سلاسةِ الرُّوح فيما هي تسرد الذكرى والشعور.

وليس مردُّ التكوينِ السوريِّ لإيتيل هو هوية والدها السوريَّة فقط، بل قدرتها على تحويل المكان واللغة والمعنى حفراً في ذاتها، من دون تكلُّفِ العقد النفسيَّة للمغتربين، في كتابتها عمَّا تتذكرَّهُ وتصفه بالفقد الأبدي لكلِّ ما هو جميل؛ رسائل أهلها الغرامية، الحروب التي تقودها سلطات الإمبريالية في زمن التشكُّلات القوميَّة التي لم نشهدها نحن كحرب، بقدر ما شهدناها خطاباتٍ لغويَّة بائسة ومُفرغَة من قيمها ومضامينها.

سوريا في إيتيل هي اللغةُ وذاكرةُ أبٍ روى حكايةً لابنته وعلقت القِصَّة في ذاكرتها. كانت إيتيل وفيةً لكلِّ سردٍ قصصيٍّ نالَ من طفولتها، ولكلِّ لغةٍ لم تعاينها إلا كمخيِّلة كما قالت دائماً، وحينما غابت اللُّغة العربيَّة بعد سفرها وافتقدتها، بحثت عنها وتمَّسكت بها لأنها قد وجدتها سابقاً كما قال القديس أوغسطين وبما معناه: "ما تبحث عنه، تكون قد وجدتهُ حقَّاً في وقت سابق"، لكنَّها حينما لم تجد العربيَّة أمراً تستطيع الإلمام بالكتابة والنطق، دمجت تلك اللغة في فنِّها وراحت تجسِّدها في لوحاتٍ ذات قيمة. وكان في ذلك دفاعاً عنا نحن الذين لا نملك من اللغة سوى خطابها القديم الرثِّ، بوصفها بلاغةً وحُجَّة للإقناع وأداة لامتلاك السلطة والنفوذ، من دون أن نمتلك شيئاً ممَّا تمثِّله اللغة على اعتبار أنَّها ترسيخٌ إنسانيٌّ للحريَّة أو لحداثة من خلال استعمال أدواتها وخروجها عما يبدو مفروضاً من سلطة تسيِّس هذه اللُّغة وتحتكرها.



وكانت لإيتيل يدٌ بيضاء للتاريخِ السماعيِّ عندما نقلته إنسانيَّاً وشعريَّاً بما يملكه من تاريخٍ ممكنٍ عبر الكتابة. فإيتيل إحدى أهمِّ شخصيات المعرفة الأيديولوجيَّة المُدرِكة لقيمة الحداثة، وذكريات الحروب والوقوف ضدها، وضرب السلطات العنيفة، والإيمان بتجليات المكان الروحيَّة التي تتجسَّد ماديَّاً. من هنا كانت مع شعب سوريا دائماً، في إمكانية الحلم بامتلاك مجتمعٍ لا عنفي؛ مجتمع يكون فيه المحاربون من ذوي العاطفة الحقيقيَّة، وعلى صورةِ أبيها الذي كان محارباً وكارهاً للحرب في الوقت نفسه، وحتى دلالات آرائها لم تحمل سمة الأيديولوجيا العنيفة أو الغاضبة. أمَّا نسويتها فقد كانت ذات صيغة جماليَّة، لا تقتصر على المعنى المتجسِّد بالثورة دائماً؛ الثورة التي تحمل الكره والضغينة على الذكور، بل أرادت إيتل إعادة إنتاج المعنى عبر المخيِّلة اللُّغويَّة؛ فهي لا تصنف نفسها إلا بمقدرات اللُّغة، ونقل التصوُّرِ الروحيِّ إلى معنى لغويٍّ تحاجج به؛ فتبدو المرأة قُدساً لأنَّها حُلم، والوطن محتملاً لسرد حكاية عنه. وقد أتاح لها تعدد اللُّغات أن تكون مبدعة في استنباطها واستقرائها، وفي الاستنباط منها هي نفسها؛ هذه الصلاة المتبادلة والمتفوقة على قدرات عامَّة الناس.

إنَّ علاقتها بالماضي هي علاقة سرديَّة ترتبط فقط بما تختاره وتتذكَّره، أمَّا علاقتها بالواقع ترتبط بما يبدو عدلاً وحقيقةً؛ كموقفها الحديِّ ضدَّ حرب أميركا في فيتنام، أو تأويلها الإنساني لشخصية تشي غيفارا بعيداً من قسوة الثورات وعنف تأويلاتها. إيتيل تبدو ابنةً للهلنستية اليونانية التي رأت حروب الأرض جمعاً حضاريَّاً للذكرى والسرد والتأريخ، وهنا تكمن قيمتها الحضاريَّة التي يُعوَّلُ عليها في المستقبل؛ فهي تتعاطف مع قيمة ما تملكه الشعوب أكثر من اهتمامها بقدرة تلك الشعوب على إقامة الحروب. حاولت إيتيل توجيه أنظار النظام العالمي إلى الصورة الديكتاتوريَّة الحقيقيَّة في سوريا، لأنَّ سوريا جسَّدت عند أبيها الجمال الذي يمكن سرده وتذكُّره بكلِّ وفاءٍ لهذه الأرض. 

من هنا، كان درسها الإنسانيِّ للسوريين لجعلهم أكثر تحرراً عبر لغتهم وأكثر قدرةً على السرد العفويِّ لنضالهم من أجل عالمٍ يُمكن تذكره على طريقة أفلاطون بأنَّه آتٍ من سماوات جميلة تخلقها اللُّغة من دون قيود. المثقفة السورية العظيمة والشاعرة التي لا تعرف لغتنا قد رحلت، لكن تجليَّها في كلِّ ما قدَّمته هو درسٌ سوريٌّ إنسانيٌّ في المقام الأول، وثوريٌّ نسويٌّ بلا شكٍّ.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024