إيلي معلوف: باريس مكان مناسب للمشاريع الخاصة

حسن الساحلي

الخميس 2016/03/03
يعتبر إيلي معلوف من أبرز موسيقيي الجاز اللبنانيين العاملين في فرنسا اليوم، وهو عازف بيانو استثنائي قدم أعمالاً لا تحصى حول العالم منذ عقود. بالإضافة إلى ألبومه الخاص على البيانو "عبر الحياة" (2007).
ألف معلوف عدداً كبيراً من الأعمال مع فنانين عدة منهم المغني الفرنسي إيفان دوتان الذي يؤدي أعمالا سياسية منذ السبعينات، وعازف العود المصري إيهاب رضوان في مشروعهما The Blossom Project، والمغني الكردي اللبناني عيسى حسن، الذي أدى معه حفلة منذ أيام في بيروت.
تتمحور هذه الشهادة مع معلوف حول رؤية الفنان وتطور مسيرته في باريس، وتحاول تقديم فهم لدور مدينة باريس في تكوين موسيقى "عبر قومية" يسهم في تفعيلها فنانون لبنانيون وعرب بطرق مختلفة.


زحلة
غادرت لبنان إلى فرنسا في عمر السابعة عشرة. كنت راغباً في أن أصبح عازف بيانو. لم يكن هناك في مدينتي زحلة أي مدرسة موسيقية ولا حتى مدرس حقيقي بإمكانه الاستمرار في تعليمي اكثر من أسابيع عدة. وجدت أنه عليّ أن أعلّم نفسي من طريق السمع. طبعا السمع فعل غير إرادي، وقبل الإنترنت ووسائط الميديا، لم يكن لدينا خيار سوى تلك الأغاني "العشوائية" على الراديو أو التلفزيون. لسبب أو لآخر كنت أركّز على البيانو في تلك الأغاني ومنه أنطلق إلى الآلات الأخرى.

الشخص الوحيد ربما الذي أثر عليّ يومها هو صديق للعائلة، كان طبيبا ملمّا بالموسيقى الكلاسيكية. اسمعني أسطوانات كثيرة لأشهر عازفي البيانو العالميين وعروضاً كلاسيكية نمّت حس الموسيقى عندي. وكنت أسمع بعض أعمال الرحابنة، ودائما يلفت انتباهي عازف البيانو بوغوص جلاليان الذي "ينغنش" القلب في الأغاني من خلال لمسته الخاصة.

في زحلة لم يكن يلتقط "الآنتين" سوى قناة إسرائيل التي تبث أحياناً موسيقى كلاسيكية، وقناة سوريا التي لعبت دوراً في تطوير ثقافتي من خلال برنامج "أعمال خالدة" الذي كان يبث في الثمانينات وتقدمه امرأة تعرض أعمال موسيقيين كلاسيكيين من العالم وخصوصاً من الاتحاد السوفياتي.

عندما ذهبت إلى فرنسا وبدأت دراستي الأكاديمية أصبت بخيبة أمل. مَن كان في عمري وقتها كان سينتهي من الدراسة قريباً. لكن مع مرور الوقت، فهمت أن تأخري في دخول معهداً موسيقيّاً كان إيجابياً لي، فالإنتظام والإنضباط الأكاديمي في عمر صغير يلعب دوراً في الحد من الخيال وتضييق الخناق على رؤية الموسيقي. لا شك أنك ستقرأ نوتة بشكل ممتاز وستعزف بطريقة مثالية، لكنك ستفتقد على الأغلب الروح والخيال. هناك من يحدد لك برنامجاً يوصلك إلى شيء محدد وصورة يريدها عنك. من الجيد ألا تركن إلى صورة محددة مسبقاً، فالحرباء التي تغير لونها لتتأقلم مع الأمكنة، لا تتغير هي من الداخل وتبقى نفسها. أعتقد أني أستطيع أن أكون كذلك وأتأقلم مع أي مشروع كان بشرط أن أكون أنا نفسي، وأعطي للمشروع شخصيتي الخاصة. دفعني هذا إلى التوجه نحو الارتجال والجاز، فدخلت مدرسة جاز أميركية ودرست "مودرن هارموني" مع الموسيقي برنارد موري Bernard Maury في Bill Evans Piano Academy. 
عندما غادرت لبنان كنت رافضاً التوجه نحو الموسيقى الشرقية. وفي كل حال، لم يكن هناك، يومها، موسيقى شرقية حقيقية تثير الاهتمام. في أواخر الثمانينات كان الأورغ قد بدأ يطغى على كل شيء، وكان نادراً ان تسمع تختاً شرقياً حقيقياً. بالطبع، كنت أحب بعض الأعمال لكن ليس الموسيقى المصرية الطربية التي تميز بعض أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب "الدسمة"، التي تشعرني موسيقاها احياناً كأنها تؤنبني. لا أقصد أغاني أم كلثوم في الثلاثينات التي كانت فيها أقرب إلى تراث التجويد القرآني. لكن على كل حال، إذا سألتني عما أحب دائما ما اجيب بأني أقرب لتراث زكريا أحمد وسيد درويش، وطبعاً موسيقى الرحابنة وأداء فيروز الذي يتميز بمرونة نادرة. 

صلة وصل
بعد سفري إلى فرنسا اكتشفت الموسيقى الشرقية في المكتبات الباريسية المليئة بالأسطوانات العالمية. سمعت موسيقى عراقية وتركية وسورية وأرمنية واذربيجانية واكتشفت المخزون العظيم الذي يمتلكه الشرق.

كان توجهي نحو الجاز نتيجة شغفي بكل هذا التنوع، ورغبتي في أن أكون صلة وصل بين كل هذه الأنماط عن طريق البيانو. فأنا بدأت أعزف البيانو "عالسمع" وارتجل كثيراً، أي أني في مكان ملتبس دائما ولا أنتمي إلى نمط محدد. لا يمكن سوى للجاز أن يتلاءم مع هذه المساحة الحرة التي تجد فيها الهارومني والارتجال والإيقاع في الوقت نفسه. وليس عليك أن تكون منتمياً إلى جماعة محددة في باريس تضعك في مكان واحد فيمكن أن تنتمي إلى جماعات عدة وتعزف مع موسيقيين متنوعي الأمزجة. التنوع الذي تمتلكه باريس استثنائي. يمكنك أن تجد مثلا موسيقيين من الهند يعزفون السيتار، أو أفارقة يعزفون الفلوت الأفريقي، أو صينيين يعزفون الكمنجة الصينية "الإرهو"، أي بإمكانك أن تجد أي شيء في باريس.
 
هناك حيز للموسيقيين الشرقيين في باريس، وكل موسيقي يمتلك مشروعه الخاص. نلتقي أحياناً في أعمال معينة لكن ربما نحتاج إلى مكان جدي يجمعنا. حاول الصديق سميح شقير مؤخراً لعب هذا الدور من خلال افتتاحه مقهى "سيريانا" الثقافي لجمع المثقفين والموسيقيين، ويحاول اليوم تطويره لأخذ حيّز أوسع. لكننا نحتاج إلى أمكنة يأتي اليها الموسيقييون من أجل "جامينغ" فقط مثل "كلوب جاز". هناك يخت صغير على نهر السين، تمتلكه عائلة ارمنية تحاول لعب هذا الدور، وجمع بعض الموسيقيين الشرقيين بين فترة وأخرى.
نقص
يختلف الموسيقيون الشرقيون في باريس عن الموسيقيين في لبنان. من يعيش في باريس يسمع انماطاً متنوعة اكثر ويحتك مع اثنيات اكثر. ربما في السنوات القليلة الماضية قد تغير هذا مع انتشار الإنترنت واستحداث منافذ جديدة للمهتمين بالموسيقى. طبعاً، لا يندمج الجميع بسرعة وهناك من يقوم بردة فعل ثقافية ويصبح متزمتاً اكثر. أعرف أحدهم كان يعزف الموسيقى الكلاسيكية في لبنان لكن عندما سافر إلى فرنسا تغير بين ليلة وضحاها وقرر فجأة أنه شرقي وتحول توجهه إلى الموسيقى الشرقية. عندما تسمعه اليوم تعرف أن هناك أمراً غير منطقي وغير طبيعي. كما أنك تجد نوعاً آخر من الموسيقيين العرب الذين هاجروا باكرا إلى اوروبا واستغلوا تخلّف الجاز عن الموسيقى الشرقية يومها. منهم من كان يعزف آلات غربية في لبنان لكن مع ذهابه إلى أوروبا وجد أن مستواه منخفض جدا في مقارنته مع عازفي الآلات نفسها. تراه يتحول إلى العود أو إلى آلة شرقية غير معروفة ليستغل النقص الكبير لهذا النمط. من هؤلاء من اخذ شهرة كبيرة وصار معروفا مع ان مشاريعه ذات مستوى غير جيد.

كراهية
لم أعان من "أزمات ثقافية" عند ذهابي إلى فرنسا، ولم اشعر بإغتراب عن المجتمع مثل آخرين. ربما بسبب صغر سني يومها والتقارب الثقافي بين لبنان وفرنسا وإجادتي اللغة الفرنسية، ما أسهم في اندماجي بسرعة. هناك كثيرون، من الموسيقيين، يشتمون فرنسا ويكرهون الفرنسيين، وهذا يؤثّر سلباً للغاية في مسار أعمالهم. حتى في لبنان تجد مَن يعزف موسيقى غربية ويشتم الغرب... ما ينعكس خللا في توازن الشخصية الموسيقية لأولئك.

أجد أن الموسيقي الذي يجيد التأقلم مع الأمكنة يكسب كثيراً في عمله. لقد ذهبت إلى بلدان كثيرة في مسيرتي، وأن كنت أعمل مهنة اخرى ربما لن اتمكن من فعل ذلك. حتى لو فعلت هذا سيكون احتكاكي مع البلاد ناقصاً وسأدخلها كسائح يجرب بعض مأكولاتها أو يذهب الى أمكنة سياحية فقط. لكن عملك كموسيقي يسمح لك أن تفهم كثيراً عن تلك البلاد من خلال موسيقييها وموسيقاها. تتعرف إلى اشخاص متشوّقين لسماع ما عندك وانت متشوق كذلك لاكتشاف عوالمهم الصوتية. يصبح التواصل حميميا للغاية. كما أن الإحتكاك يصبح اجمل كلما عرفت عن تلك البلاد اقل وانخفضت نظرتك العامة إلى الجمهور وتوقعاتك لما يحب. تصبح أقرب إلى نفسك عندها.
 
يمكن أن يكون البيانو صلة وصل بين كل تلك الإثنيات والثقافات والأنماط الموسيقية. أفكر منذ فترة أن أقوم بمشروع "ارتجالي" في بلدان مختلفة بمرافقة البيانو. أبدأ مثلاً من غرب آسيا وأجمع كل تلك الثقافات في عمل واحد من اذربيجان إلى إيران والأناضول وسوريا ولبنان. أسجل مثلاً اغنيتين مع ندى آتيس في تركيا، وأغنية مع المغني الكردي صديق تعريفي في إيران، وأفعل الأمر نفسه في سوريا وأرمينيا ولبنان، على أن يكون البيانو صلة وصل بين تلك المناطق التي تتقاسم ميزات موسيقية متقاربة. هذا مشروع طبعاً يحتاج إلى جهد كبير ونقود كثيرة للأسف غير متوفرة إلى الآن لديّ. لكني أحلم منذ فترة أن أجمع العالم من خلال البيانو الخاص بي.


*قدم ايلي معلوف أكثر من حفلة في "مترو المدينة" خلال زيارته بيروت.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024