معرض القاهرة: طوابير طويلة وحقائب فارغة

أسامة فاروق

السبت 2019/01/26
غريب حال الكتاب في مصر. حين وُجدت الكتب غاب القارئ، وحين وُجد القارئ غابت الكتب، وحين وُجدا معاً تغيرت الأحوال الاقتصادية وضعفت القدرة الشرائية ودخل الكتاب في منافسة غير عادلة مع الاحتياجات اليومية التي تجعله دائما في ذيل الاهتمامات!

هكذا كنت أفكر فيما أتأمل الطوابير الطويلة التي التفت حول مداخل ومخارج المقر الجديد لمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الذهبية.

بدأ معرض القاهرة رحلة البحث عن القارئ منذ العام 1969 في أرض المعارض الدولية بالجزيرة، واستطاع خلال تلك السنوات أن يخلق حالة من الترابط مع الجمهور منذ انطلاقته الأولى التي كان شعارها "بناء الإنسان المصري بعد نكسة يونيو". استضاف كبار الكتّاب والمثقفين العرب، واحتضن الكثير من الفعاليات العامة والسياسية بشكل خاص نظراً لطبيعة الظرف الذي كانت تمر به مصر في تلك الفترة. في العام 1984 نقل إلى مقره الجديد في مدينة نصر، ليبدأ من هناك رحلة مختلفة على الصعيد الداخلي والدولي في المساحة الكبيرة والمباني الجديدة والأنشطة غير المسبوقة. توسعت فعالياته وأصبحت ندواته الفكرية منبراً لكبار مثقفي مصر والمنطقة العربية، بالإضافة إلى أنه أصبح موعداً سنوياً للقاء المثقفين بالرئيس. لكن أعواماً كثيرة مرت عليه في مكانه هذا، جرى خلالها الكثير من الأحداث، تغير العمران من حوله وأصبح في المركز بعدما كان على الأطراف، ثم أصابه التكلس الذي أصاب مصر كلها خلال 30 عاماً. ألغي اللقاء السنوي بالرئيس وأصبحت فعالياته تقام تحت مسميات فارغة، وأصبح حضورها مقتصراً على من يريد أن يريح قدميه من الجولات داخل الأجنحة.

وليس سراً أن المعرض تحول في سنواته الأخيرة في المقر القديم، إلى "مولد"، يباع فيه أي شيء، وبالأكلات الشعبية والموسيقى الهادرة من كل مكان، والفوضى التي تحتوى الجميع، أصبح مجرد "خروجة"، فسحة تكسر فيها الأسر روتين الحياة الممل، في مكان رحب على ما تبقى من خضرة تتسع لجلسة لطيفة في مكان مفتوح. بالطبع لا أحد يكره الفسحة، لكن فقط كان من المؤلم أن يتوارى الكتاب في خلفيه تلك المشاهد العبثية وأن يظل دائماً ضيفاً ثقيلاً على تلك الفعالية المقامة باسمه.

في 2010 ربما تغير الوضع قليلا، ليس على مستوى النظام لكن على مستوى القارئ نفسه، ظهرت موضة الـ"بيست سيللر" وأصبح هناك قارئ يمكن ملاحظته بسهولة في حفلات التوقيع التي كانت "موضة" جديدة وقتها. لكن هذا القارئ لم يلبث أن يتورط في الثورة، وضاع في زحام الشارع الذي شغله عن أي شيء آخر.

حتى دورة معرض الكتاب ألغيت في 2011 للمرة الأولى في تاريخه بسبب الثورة. كان عاماً بطولياً وتاريخياً، لكنه لم يكن بالتأكيد عاماً للكتاب. قد يكون الكتاب في خلفية ما جرى دافعاً ومحفزاً ومحركاً، لكنه بالتأكيد لم يكن سلعة رائجة خلال هذا العام.

الناشرون تضرروا كثيراً من إلغاء تلك الدورة لذا كانت الدورة التالية بمثابة الإنقاذ بالنسبة اليهم، وحتى على مستوى الدولة نفسها التي اعتبرت المعرض النشاط الدولي الأول الذي يقام بعد الثورة، وكان من المهم أن يقام وأن ينجح.

الناشرون اعتبروا إقامة المعرض في مخيمات تشبه مخيمات اللاجئين أفضل من لا شيء، فلا أحد تضرر من إلغاء الدورة السابقة بقدرهم، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى التوقف تماماً وربما تغيير النشاط. غابت الكتب إلى أن قامت الدورة الجديدة بالدور المطلوب، حركت المياه الراكدة واستطاع الناشرون تعويض بعض خسائرهم، وبيع بعض العناوين التي لم يتسن لهم حتى عرضها خلال عام الثورة.

الجمهور كان مفاجأة دورة 2012، حيث شهد المعرض رغم كل الأحداث حضوراً جماهيرياً كبيراً، حتى في الأيام التي شهدت تظاهرات واعتصامات وانتخابات، ربما اشتياقاً إلى الكتب أو إلى المعرض، أو حتى حنيناً إلى ممارسة فعل عادي بعد عام غير عادي.

بعد عام من الغياب، لم يكن الكتاب في خلفية المشهد، لم يكن ضيفاً على الفعالية التي تقام باسمه. بل بالعكس للمرة الأولى بعد غياب طويل، يكون في الصدارة، حيث احتلت كتب الثورات غالبية الرفوف، وتنوعت العناوين بين القصة والرواية، واليوميات، والتحليلات، والمقالات وحتى الكوميكس، وهو ما لم يكن متوقعاً. ففي الوقت الذي يعاني فيه الكتاب، باعتراف الجميع، لا تتوقف المطابع عن إخراج عشرات الكتب الجديدة، والجيدة.

الثورة كانت كلمة السر في هذا كله، هي التي اتهمها الجميع بأنها كانت السبب في موت الكتابة منذ 2011، وهي نفسها التي تتسبب في بعثها من جديد. صنفت وقتها باعتبارها الموجة الثانية لكتب الثورة، تخلى فيها المحللون عن الفرحة السابقة برحيل النظام، فلم تكن فقط تسجيلاً لما جرى، لكنها كانت أشبه بمحاولة للفهم، متجنبة الفخ الذي وقعت فيه القطفة الأولى. الفرح الطفولي والاستعجال وحصر الثورة في رحيل رأس النظام، بالطبع انتهى هذا كله الآن. فإن كانت ثمة تحليلات فهي فقط تشيطن الثورة، وتلعنها، وتخون كل من شارك فيها.

في العام 2013، عام رحيل الإخوان، بدأت طباعة "دون كيخوته"، انتهىاء بـ"الحرب والسلام"، وبينهما عشرات العناوين التي رسمت حال الكتاب في واحدة من أسخن السنوات في مصر. لكن للأسف لم ينتبه أحد هذه المرة، فالشعب كان في الشارع مجدداً، يزيح نظاماً آخر في أقل من ثلاثة أعوام. الشعب كان يصنع التاريخ ولم يكن لديه الوقت ليقرأ، باختصار تم التأكد من أن هذه السنوات هي سنوات الكتب الضائعة. صحيح لم يعد النشر مغامرة كما في الأعوام التي سبقت، لكن الوضع لم يتحسن كثيراً، نظام آخر رحل والشعب في الشارع يؤيد أو يعارض أو يفوض. المهم أنه ما زال في الشارع، حيث لا مجال لشراء الكتب.

يمكن أن نقول إن الملمح الأبرز في عام رحيل الإخوان، كان عودة الكلاسيكيات، حيث أعادت هيئة قصور الثقافة عبر أكثر من سلسلة، نشر مجموعة من الكتب القيمة، وأتاحتها بأسعار رمزية. طبَعت أعمالاً لبيلزاك وألبير كامو، وخوان رولفو، وهو ما استمرت عليه في الأعوام التالية التي ألقى فيها الهدوء السياسي -أو خيبة الأمل الشعبية- بظلاله على المعرض وجمهوره. لكن الملفت كان الحالة التي وصل إليها المعرض بعدما فقد ما تبقى من مبانيه في عملية تطوير لم تتم، وأصبحت الخيام التي لا تقي من الرياح والأمطار مسيطرة على أغلب أرجائه الفسيحة، فبدا وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكان لا بد من التفكير في شكل مختلف وفعاليات مختلفة، وبالتأكيد مكان مختلف.

هذا العام في اليوبيل الذهبي للمعرض حدثت النقلة التي تأخرت كثيراً. نقلة دار حولها الكثير من الجدل خلال الفترة الماضية، خصوصاً أنها تمت من دون شرح أو توضيح. فقط "صدر قرار" كما قال رئيس هيئة الكتاب المسؤولة عن المعرض! صحيح شاخ المقر القديم وتهالك، وأصبح المعرض معه كعجوز يحتضر، رغم أنه كان بالكاد قد تجاوز الأربعين، لكن زواره كانوا يستحقون احترام خوفهم من التغيير ومن المسافات التي تصعب زيارة المكان أكثر من مرة، وحتى ذكرياتهم التي حملتها الثنايا المتغضنة للكهل الكبير، بدلاً من اتهامهم بالجهل والوقوف في وجه التطور الطبيعي والنقلة الحضارية الكبيرة.


المقر الجديد على أطراف القاهرة في صحراء التجمع الخامس، يبدو فتياً، منظماً ومتسعاً ونظيفاً، ربما يخلو من الروح، لكن الناس فعلت ذلك في المقر القديم وتستطيع أن تكرره مجدداً، رغم ضرورة الاعتراف بأنه يبدو جافاً متسلطاً بأسواره العالية وحراسة الغلاظ الذين يصرون على النبش في محتويات حقيبتك وتفتيشك ذاتياً مرتين في عملية مرهقة جسدياً ومعنوياً. فإذا دخلت من البوابة الرئيسية تفاجئك عملية التفتيش الجديدة على بوابات القاعات، وعليك التفكير جيداً قبل الخروج من القاعة التي دخلتها لأنك ستقف في الطابور وستتعرض للتفتيش في كل مرة تريد أن تدخل فيها! عملية مزعجة لا نعرف إن كانت ضمن أخطاء البدايات، التي كانت كثيرة بالمناسبة، أم فرصة للتعطيل والتباهي بالأعداد الغفيرة التي أبطلت حجج الغياب وردت على من شكك في نجاح الدورة الجديدة التي افتتحها الرئيس بعد غياب عن الدورات السابقة.

كرست الدولة أجهزتها لإنجاح الدورة الخمسين في المقر الجديد، مواصلات متاحة من أماكن كثيرة تنقل الزوار بأسعار رمزية ومجاناً في بعض الحالات، وتقارير صحافية يومية تشيد بالمكان الجديد، وتشرح كيفية الوصول بكل الطرق المتاحة. على أي حال، هزم الجمهور مخاوف الطريق الطويل، وتكدست السيارات في شوارع التجمع الخامس الفسيحة. لكن خيبة الأمل لا يمكن مداراتها داخل الصالات الواسعة. البحث المضني عن كتاب بسعر مناسب، والحسرة والتقليب في بضاعة حولها سعر صرف الجنيه أمام الدولار إلى أمل بعيد المنال في صالات الناشرين العرب تحديداً الذين لم يعرضوا حتى بضاعتهم كاملة بعد بسبب احتجاز بعضها في الموانئ والمطارات المصرية حتى الآن!

حتى قبل 2016 كان منظر جوالات الكتب وحمولاتها الكبيرة، يتكرر كثيراً داخل أروقة المعرض. حتى أن بعضهم كان يحتاج إلى حمّال ليخرج له كتبه خارج أرض المعارض، وكانت وظيفة موجودة حتى دورة العام الماضي. في المكان الجديد تكاد الأيدي تخرج فارغة، وبعضها بكتاب أو اثنين للأطفال، أو حتى لعبة كتذكار لفسحة ربما لا يسمح الوقت بتكرارها.

في الوقت نفسه حلت الأسماء الكبيرة محل مطاعم الأكلات الشعبية، انحسر الكشري وظهرت الشاورمة، وحتى بعض المحلات الشهيرة افتتحت فروعاً خصيصا في أرض المعارض الجديدة، أرضيات لامعة وسلالم متحركة، مناطق ألعاب للأطفال، وبالطبع سلاسل مقاه عالمية.. حتى إن البعض وصفه بـ"مول الكتاب" بدلاً من معرض الكتاب. تبدلت "الخروجة" إذاً من مولد إلى مول، حرف واحد لكن يحمل الكثير من المعاني ويفسر الكثير مما جرى.

على كل حال هذه الكتابة ليست سوى انطباعات أولى، والحكمة تقول إن الانطباعات الأولى تدوم كما نعرف.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024