إذا كان الأكاديمي مُخبراً بحكم مهنته.. فماذا عن الصحافي؟

جلبير الأشقر

الأحد 2019/08/04
نشر موقع "المدن" بتاريخ الثاني من آب 2019، مقالاً بقلم شادي لويس حمل عنوان "الأكاديمي مخبر محلّي؟" وتحته صورة كبيرة لي. وبعد اتصالي بالمشرفين على الموقع احتجاجاً على الأمر، تجاوبوا على الفور ونزعوا صورتي عن المقال ودعوني لكتابة ردٍّ التزموا بنشره. كنت أتمنّى بالطبع لو أن كاتب المقال، مراعاة للأخلاق المهنية السليمة التي تتّبعها الصحافة المحترمة، كلّف نفسه عناء الاتصال بي كي يطّلع على رأيي قبل زجّ اسمي في مقاله.

طبعاً، من حقّه تماماً إبداء رأيه الشخصي في الموضوع الذي أثاره، لكنّ توخّي الموضوعية كان يقتضي منه أن ينقل أيضاً وبأمانة وجهة نظر من يتحدّث عنهم، ولو اختلف معهم وانتقدهم. بل وقع كاتب المقال في الخطأ ذاته الذي وقع فيه نفرٌ صغير من المتحمّسين كتبوا تقريراً عن جامعتي مليئاً بالمغالطات التي كان بإمكانهم تفاديها ببساطة لو اتصلوا بالمعنيين للاطّلاع على رأيهم. وقد تبعَتْهم في ذلك، نقلاً عنهم، صحيفةٌ لليسار البريطاني القديم، ثم استدركت بعدما تلقّت ردّي على التقرير المذكور، فنشرت مقالاً ثانياً تعويضاً عن الأول وتصويباً له وبعد الاتصال بي هذه المرّة للوقوف على رأيي.

هذا وبالرغم من إشارة شادي لويس إلى ردّي على التقرير المذكور، يبدو أنه لم يقرأه، بل راح يخترع سجالاً بين رأيين، مضمّناً الرأي الذي يوحى للقارئ أنني أشاطره حججاً لم تصدر عنّي أبداً، بل هي مغلوطة في نظري. وإثر هذه الموازنة بين حجج اخترع كاتب المقال بعضها، نصّب نفسه حكَماً في القضية وخلص إلى ما يشكّل في نظري افتراءً. وبما أن المقال منشور في موقع علاني، اضطرّني الأمر إلى الردّ، وهو ما أتفاداه عادة غير مبالٍ بالمذمّات التي تُنشر بحقّي في الوسائط الاجتماعية.

فما هي القصة التي خصّص لها شادي لويس مقاله؟ إنها بسيطة للغاية. فقد دخلت جامعتي في مناقصة على عقد مع "الوحدة الثقافية المتخصصة" لدى وزارة الدفاع البريطانية لتوفير دروس عن بعض مناطق العالم التي ندرّسها في مناهجنا. وقد طُلب منّي أن أساهم في الحصّة الخاصة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقبلت بعد تأكّدي من غياب أي شروط تتناقض مع مبادئي التي يعرفها كل من قرأ أياً من كتاباتي. ولم أجد في الأمر إشكالاً، والحال أن الذين يتلقّون الدروس ليسوا من صنّاع القرار، ويقوم التدريس على الحصص التي نوفّرها في جامعتنا والتي يستطيع أي كان أن يتلقّاها (والحال أن بين الطلبة الجامعيين العاديين عدداً من الأفراد الذين يتابعون الدراسة بمنحة من وزارة الدفاع). وعليه، رأيت أن الأمر مقبولٌ تماماً، بل مفيدٌ في تغذية الروح النقدية لدى بعض العسكريين بما قد يؤهّلهم لانتقاد السياسات التي تُفرض عليهم (هذا ما يؤدّي بين حين وآخر إلى قيام عسكريين نقديين بنشر فضائح عن المؤسسات العسكرية والحكومية مثل التي نُشرت عن السلوك الأمريكي في العراق). وليت أنظمتنا في درجة من الانفتاح الليبرالي إلى حدّ تكليف الجامعيين، بغير شروط أو رقابة، بإلقاء دروس سياسية على قواعد الجيوش!

هذا وبنتيجة مشاركتي في التدريس، تلقّى عددٌ من الجنود وأصحاب الرتب الدنيا، وأغلبهم من الشباب، تلقّوا تدريساً عن الشرق الأوسط تضمّن نقداً صارماً للعداء للإسلام والمسلمين، ولإرث الاستعمار البريطاني في المنطقة، ولاضطهاد الشعب الفلسطيني ودور الدولة الصهيونية الإقليمي، ولنبوع السياسات الغربية، بما فيها السياسة البريطانية، من المصالح النفطية بخلاف ادّعائها المنافق بالاستناد إلى قيم سامية، الأمر الذي يتجلّى في مسايرة الحكومات الغربية لشتى الأنظمة الاستبدادية، وخوضها لحروب مجرمة غايتها نفطية كالحروب المتعاقبة على العراق، وبيعها أسلحة لحكومات تستخدمها لأغراض إجرامية مثلما هي حال الأسلحة الغربية التي تستخدمها دولٌ خليجية في تدمير اليمن، إلخ. وقد قام بنقد مماثل سائر الأكاديميين النقديين الذين ألقوا محاضرات أمام العسكر، وربّما كان أشهرهم نعوم تشومسكي الذي ألقى محاضرة عن مشروعية الحرب أمام تلاميذ الأكاديمية العسكرية الأمريكية التي يتخرّج منها ضبّاط القوات المسلّحة.

وليس بالطبع في ما نقدّم أي إسهام في "شرعنة الحرب"، كما جاء في ختام المقال، بل العكس هو الصحيح. كما ليس في ما نقدّم أي تزويد لأي كان بمعلومات غير التي نوفّرها لمختلف أنواع الطلبة في جامعتنا أو في محاضراتنا العلانية، بل بأي معلومات تزيد عمّا هو متوافر في الكتابات التي ننشرها على الملأ. ولو جعَلَنا قيامُنا بذلك "مُخبرين"، كما خلص إليه كاتب المقال (حتى ولو أضاف أنه لا يقصد بالكلمة "معناها الأمني"، وكان أحرى به ألا يستعمل على الإطلاق تلك الكلمة الملغومة)، فإن الصحافيين الذين ينقلون أخبار بلدانهم إلى العلن يصبحون هم أول "المخبرين" بلا منازع (ناهيكم من مصادر تمويل الصحافة وشتى أجهزة الإعلام في بلداننا، التي يدركها الجميع). وهذا بالفعل منطق الأنظمة الاستبدادية التي تعتقل الصحافيين والباحثين الجامعيين باتّهامهم بأنهم "مُخبرين"، وأبرزها في منطقتنا النظام القائم في بلد كاتب المقال، مصر السيسي. وهو أمرٌ يفاقم كثيراً من مسؤولية الكاتب وجسامة الخطأ الذي ارتكبه إذ كان ينبغي عليه أن يكون أدرى الناس بخطورة أقواله. وختاماً أتمنّى له بكل صدق ألّا يقع يوماً في بلاده أو في غيرها ضحيةً لمثل التهمة التي ساقها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024