رسول الأنام في فن الكتاب الإسلامي

محمود الزيباوي

الأربعاء 2020/10/28
عرف المسلمون فن الرسم التصويري منذ العهد الأموي، إلا أن هذا الفن لم يأخذ طابعاً دينياً مقدساً. خلت المساجد والمصاحف المخطوطة المزوّقة من الصور الدينية بشكل كامل، كما خلت المخطوطات الأدبية والعلمية من هذا النوع من الصور حتى نهاية العصر العباسي كما يبدو. في المقابل، يشهد تطوّر فن الكتاب لظهور تصوير الأنبياء والرسل في مرحلة دخول المغول في الإسلام، وشيوعها في العصور التالية. ظلّت هذه الصور غائبة عن المساجد والمصاحف، غير انها حضرت في الكتب التاريخيّة كما في القصص الدينية والدواوين الشعرية التي أُنجزت بطلب من كبار الحكام والوجهاء، من دون أن يثير ذلك حفيظة الفقهاء. احتلّ النبي العربي في هذا الميراث منزلة رفيعة، وظهر في سلسلة طويلة من الصور يعود أقدم ما وصلنا منها إلى مطلع القرن الرابع عشر.

أقام المغول أمبراطورية عظيمة ضمّت مناطق واسعة من الصين وكوريا في الشرق الأقصى وامتدت حتى شرق أوروبا وشواطئ البحر المتوسط، وأخذت هذه الأمبراطورية طابعاً إسلامياً خالصاً بعدما اعتنق حكامها الإسلام في نهاية القرن الثالث عشر. تبنّى هؤلاء الحكام فن الكتاب أسوة بمن سبقوهم، وأولوه عناية خاصة كما تشهد المخطوطات التي تعود إلى تلك الحقبة، التي تُعرَف بالإلخانية، وهو الاسم الذي أطلق على دولة مغول فارس. احتلت هذه الدولة الركن الجنوبي الغربي من امبراطورية المغول، وشكّلت البلاد الإيرانية لبّها، وضمّت أجزاء واسعة من البلدان المجاورة لهذه البلاد، ومنها العراق وأذربيجان وأرمينيا وأوساط تركيا.

يظهر أقدم ما وصلنا من صور تمثّل الرسول، في ثلاث مخطوطات أنجزت في إيران. المخطوط الأول عربي، وهو نسخة من "الآثار الباقية عن القرون الخالية" لأبي ريحان البيروني، محفوظة في مكتبة جامعة أدنبره، يعود تاريخها إلى العام 1307، وتتميّز هذه النسخة النفيسة باحتوائها 25 منمنمة يحضر النبي العربي في خمس منها. تشكّل هذه الخماسية أقدم مجموعة رسوم محمّديّة معروفة إلى اليوم. تصوّر الأولى الرسول محرِّماً النسيء في حجّة الوداع، فيما تُظهِره الثانية على الجمل إلى جوار عيسى على الحمار في تأليف يجسّد تأويلاً لواحدة من نبوءات النبي إشعيا. أمّا المنمنمة الثالثة، فتصوّر بعثة مسيلمة الكذاب إلى الرسول، في حضور الإمام علي وابنه الحسين. وتصوّر الرابعة "مباهلة النبي عليه السلام مع نصارى نجران، وإخراجه الحسن والحسين مقام أبنائه، وفاطمة مقام نسائه، وعلي بن أبي طالب الذي قرّبه إلى نفسه ائتماراً بما أمره الله تعالى به في آية المباهلة"، كما يقول نص البيروني. تبقى الخامسة، وتصوّر عيد الغدير، وهو العيد الذي عيّن فيه الإمام علي مولّى للمسلمين من بعده بحسب الحديث.

المخطوط الثاني عربي كذلك، وهو نسخة نفيسة من "جامع التواريخ" لرشيد الدين فضل الله الهمداني أُنجزت العام 1314. وقد توزّعت صفحات هذا الكتاب على مجموعتين. الأولى مؤلفة من 151 صفحة محفوظة في مكتبة أدنبره. أما الثانية فمن 59 صفحة، وهي من كنوز مجموعة ناصر الخليلي للكنوز الإسلامية في لندن. زُيِّن هذا المخطوط بأكثر من 200 منمنمة تحمل طابعاً آسيوياً جلياً، منها مجموعة تصوّر أهم مراحل سيرة النبي. نتعرّف الى محمد طفلاً تحمله الملائكة أمام عيني أمّه آمنة، ثم فتى يشير إليه الراهب بحيرة الذي رأى خاتم النبوة بين كتفيه، ثم رجلاً ذا لحية سوداء يحمل بيديه الحجر الأسود أمام باب الكعبة. ونشاهده بعدها متربعاً على الأرض مصغياً إلى جبريل، ثم محاوراً أبا بكر الصديق قبل التوجه إلى المدينة. ونراه في الختام فوق جواده مخاطباً حمزة وعلي، قبل معركة بدر، وبعدها فوق البراق ووسط الملائكة عند الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

المخطوط الثالث فارسي، وهو نسخة من ترجمة لتاريخ الطبري انجزها الوزير أبو علي البلعمي في 996، وتُعرف باسم "تاريخ نامه". تعود هذه النسخة إلى مطلع القرن الرابع عشر بحسب أهل الاختصاص، وهي من محفوظات "غاليري فرير" في واشنطن، وتضم زهاء 40 منمنمة يحضر الرسول في خمس منها. نراه في الأولى مع طائفة من الملائكة، ونراه في الثانية في مشهد غسل قلبه، ونراه في الثالثة مع طائفة من رجاله، ونراه في الرابعة وهو يقضي على أبي بن خلف في غزوة أُحُد، ونراه في الخامسة مواجهاً أعداءه في غزوة حنين. تتبنّى هذه المنمنمات الأسلوب الإلخاني، وهو الأسلوب الذي جسد انطلاقة الأسلوب الفارسي الكبير في العقود التالية.

نقع على صور أخرى للرسول تعود إلى مخطوطات تاريخية أنجزت في النصف الأول من القرن الخامس العشر، أشهرها تلك الخاصة بكتاب "مجمع التواريخ" الذي وضعه حافظ آبرو بطلب من شاه رخ بن تيمور، واتبع فيه النهج الذي سار عليه رشيد الدين فضل الله الهمداني من قبله. يحتفظ متحف متروبوليتان في نيويورك، بمنمنمتين محمديتين من "مجمع التواريخ"، تمثل الأولى بدء نزول الوحي على الرسول في غار حراء، وتمثل الثانية الرسول فوق الجمل بين صحبه في الطريق إلى مكة. وتحتفظ "غاليري فرير" في واشنطن بمجموعة من هذه الصور تحوي منمنمة تصور المولد النبوي، وتُماثِل في تأليفها تلك التي نراها في مخطوط "جامع التواريخ". كذلك، تحتفظ مكتبة جامعة "يال" بمجموعة تحوي منمنمة تصور الرسول وهو يصارع ركانة بن عبد يزيد. وتحتفظ مكتبة جامعة هارفرد بمنمنمة تمثل الرسول وهو يعرض الإسلام على أبي بكر الصديق.

يحضر الرسول في منمنمات تعود إلى مؤلفات تاريخية، كما يحضر في منمنمات تعود إلى مؤلفات من صنف أدبي مختلف يصحّ وصفه بأدب المعراج. تحتفظ مكتبة توبكابي في إسطنبول بأقدم مجموعة معروفة من هذه المنمنمات، وقد أُنجزت على الأرجح في تبريز بين العامين 1360 و1370، وتتألف من ثماني صور تصور فصولاً من رحلة الإسراء والمعراج. وتخص هذه الصور في الأصل مخطوطاً آخر نُزعت منه لتُدخل إلى المجلد الذي أنجزه في العام 1544 الخطاط دوست محمد، أمين مكتبة الأمير أبو فتح برهام ميرزا. تجسّد هذه الرسوم تحوّل الفن في الحقبة التي حكمت فيها سلالة الجلائريين العراق وغربي إيران وأذربيجيان، وتُنسَب إلى أحمد موسى، المصور الذي "رفع الحجاب عن وجه التصوير"، على ما جاء في "المقدمة حول رسامي الأمس واليوم" التي كتبها دوست محمد. في هذه السلسلة، يظهر الرسول منتصباً على قدميه أمام جمع من ملائكة السماء، ويظهر أمام ملاك على هيئة ديك عملاق، براثنه على الأرض، وعنقه منطوية تحت العرش الإلهي، وجناحاه في الفضاء، يخفق بهما في كل ليلة عند السحر، صائحاً: سبحان الملك القدوس. كما يظهر محمولاً على كتفي جبريل الذي يطير به نحو رضوان حارس باب الجنة، وواقفاً أمام شرفة بيت المأمور متأمّلاً في سدرة المنتهى.

تحضر هذه المشاهد في قوالب مغايرة في مخطوط "معراج نامة" الذي اقتناه مترجم "ألف ليلة وليلة" أنطوان غالان العام 1673 في اسطنبول، وهو من محفوظات المكتبة الوطنية في باريس. يعود هذا المخطوط الاستثنائي إلى العام 1436، ومصدره مدينة هرات الأفغانية، ونصّه باللغة الإيغورية، إضافة إلى كتابات بالتركية والعربية والفارسية. وتزينه 61 منمنمة تشهد للمستوى الرفيع الذي بلغه فن التصوير الإسلامي في ظل السلالة التيمورية. في المنمنمة الأولى، يظهر محمد مضطجعاً، رافعاً يده في اتجاه جبريل الذي ينبئه بأن الله قد دعاه للصعود إلى السماء السابعة. وفي المنمنمة الثانية يظهر النبي طائراً فوق البراق بين الغيوم الذهبية، يحوط به جمع من الملائكة. تتوالد الصور لتروي سيرة الإسراء كما طوّرها الأدب الديني الصوفي في العصور الوسطى. يحل محمد في القدس ويدخل المسجد الأقصى ويطير من ثمّ إلى السماء الأولى حيث يلتقي بآدم ثمّ بالديك الأبيض والملاك الذي نصفه من ثلج. في السماء الثانية يلتقي الرسول زكريا وابنه يحيى بعد مروره بملاك الموت وملاك الصلاة. في السماء الثالثة، يحاور محمد الأنبياء يعقوب ويوسف وداوود وسليمان، ويلتقي بالملاك ذي الرؤوس الستين. في السماء الرابعة، يجتمع بالملائكة التي تحييه وتعلن سيادته عليها. وفي السماء الخامسة، يمرّ بإسماعيل وإسحاق وهارون ولوط، ثمّ يجد نفسه أمام بحر النار. بعدها، يبلغ السماء السادسة حيث ينتظره موسى ونوح وإدريس، ثم يشرف أخيراً على السماء السابعة حيث يستقبله إبراهيم بتحيّة الإكبار والإجلال. في نهاية المطاف، يُرفع الرسول إلى سدرة المنتهى ويلتقي بكبار الملائكة قبل أن يعبر طبقات الفردوس بجناته المزهرة،ثم يسير البراق به نحو جهنم ليريه إياها فيجدها سوداء مظلمة، وفيها يقبع وسط النيران التي لا تنطفئ، البخلاء والجشعون، زارعو الفتنة والشقاق، العابدون المستكبرون، المدّاحون الكذبة، الزانيات الفاجرات، والملعونون الذين توانوا عن فعل الخير في حياتهم.

في القرن السادس عشر، يعيش العالم الإسلامي تحولات كبيرة تعيد رسم خريطته الجغرافية مع نشوء الدولة الصفوية والدولة العثمانية. أَولَى الصفويون والعثمانيون عناية كبيرة بفن الكتاب وساهموا في إثراء المكتبات بأجمل المخطوطات. وفي ظل هذه العناية، ازدهر التصوير الديني في العالم السنّي كما في العالم الشيعي، من دون أن يخرج عن حدود الكتاب التاريخي والأدبي. ويمكن القول بأن المنمنمات التي تمثّل الرسول في تلك الحقبة الطويلة، لا تُحصى. تحضر صورة إسراء الرسول بقوّة في العالم الفارسي، ولعلّ أجملها تلك التي تجسد ما جاء في قمّتي الشعر الفارسي، "خمسة" نظامي و"بستان" سعدي. في المقابل، تتحوّل فصول عديدة من سيرة الرسول منمنمات بديعة تجسّد بالصورة النصوص الأدبية الدينية التي تزينها. وأبرز أثر في هذا المجال مخطوط "جامع سير النبي" الذي أُنجز بطلب من السلطان مراد الثالث، وهو مؤلف من ستة أجزاء تزينها 814 منمنمة أولاها صورة لمولد الرسول وآخرها صورة تمثّل وفاته.

في هذا المخطوط العثماني الضخم، كما في جزء من نتاج فن الكتاب الفارسي المعاصر له، يختفي وجه الرسول خلف حجاب أبيض. ولا يسعنا الحديث هنا عن شكل من أشكال التحريم الجزئي، فالمصورون الذين أحجموا عن تصوير ملامح النبي العربي استمروا في رسم من سبق محمد من الرسل والأنبياء، ولم يحجبوا وجوههم. يشهد هذا الموقف على الأرجح للإجلال الذي أحيط به الرسول الذي شُبّه بالشمس أو بالقمر في ليلة البدر. هو الذي قال فيه عمه بأنه "أبيض يستقي الغمام بوجهه"، وهو الذي قال فيه ابو بكر الصديق: "أمين مصطفى للغير يدعو/ كضوء البدر زايله الظلام".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024