قبضة الثورة.. تاريخ مستمر

محمود الزيباوي

الإثنين 2019/11/25
مساء يوم الجمعة، عادت "قبضة الثورة" الى ساحة الشهداء بعد إعادة بنائها إثر تعرضها للاحتراق من قبل مجهولين صباحاً. وتعاون عشرات الشبّان على رفع هذه القبضة في المكان نفسه الذي نُصب فيه المجسّم المحروق، وسط هتافات المتظاهرين. 

يستعيد هذا النصب الحديدي نموذجاً شاع منذ عقود طويلة، ويحمل من جهة كلمة "ثورة"، ومن الجهة المقابلة "للوطن". متى ظهر هذا النموذج، وكيف تكوّن؟ تظهر الأبحاث أن هذا النموذج تشكّل تلقائياً في الأوساط الأوروبية، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتحوّل إلى شعار في ألمانيا في عشرينات القرن الماضي، وانتشر انتشاراً واسعاً في اسبانياً في الثلاثينات حيث تحوّل إلى قَسم، وتجدّدت أشكاله إلى ما لا نهاية في سائر أنحاء العالم في الأزمنة اللاحقة.

في آذار/مارس 1871، اندلعت الثورة الفرنسية الرابعة التي تُعرف بـ"كومونة باريس" بعد خسارة نابليون الثالث الحرب مع بروسيا، وأعلنت هذه الثورة حكمها على كامل فرنسا، ودخلت في نزاع حول السلطة مع الحكومة الرسمية، وتعرّضت لقمع وحشي من قبل القوات النظامية خلال "الأسبوع الدموي" الذي قضى عليها سريعاً. اعتبرت هذه الحركة أول ثورة اشتراكية في العصر الحديث، وقد أيّدها العديد من أهل الفن والثقافة، منهم الفنان التشكيلي غوستاف كوربي الذي شارك فيها وقضى فترة في السجن بعد إلقاء القبض عليه. في زنزانته، أنجز كوربي مجموعة من الرسوم تصوّر هذه الواقعة، منها رسم يصوّر مجموعة من الجنود تنفّذ حكم الإعدام رمياً بالرصاص في امرأة تجسّد الثورة. تنتصب هذه المرأة وسط عدد من الجثث المتهاوية من حولها، وترفع قبضتها بثبات نحو الأعلى، ويمكن اعتبار هذه الصورة إحدى أولى تجليات "قبضة الثورة" في مرحلة تكوينها الأولى.

تتكرّر هذه الحركة في عدد من الرسوم الطباعية التي أنجزها الرسام تيوفيل ألكسندر ستايلن، في الصحافة الاشتراكية، بعد بضعة سنوات، ومنها رسم يمثّل عاملين يرفعان قبضتيهما فوق الثورة التي اتخذت مرة أخرى شكل امرأة تحتل وسط التأليف. ورسم آخر يمثّل ناخباً يسير إلى الأمام وسط العامة، رافعاً قبضته المغلقة إلى الأعلى. خارج فرنسا، تظهر هذه القبضة في عدد من الأعمال التشكيلية، منها لوحة زيتية من توقيع الفنان الإيطالي اميليو لونغوني، وتعود إلى العام 1891، وعنوانها "الخطيب أثناء الإضراب". يظهر الخطيب الشاب في وسط هذه اللوحة، وهو يمد قبضته أفقياً فوق العمال المجتمعين حوله، وتظهر في القسم الأسفل قبضتان ترتفعان عمودياً وسط الجمهور في حركة موازية.

تحوّلت هذه الحركة التلقائية إلى شعار في ألمانيا، حين تبنتها شعاراً رسمياً لها، في 1924، جمعية ألمانية منبثقة عن الحزب الشيوعي حملت اسم "جمعية مقاتلي الجبهة الحمراء". هكذا ظهرت قبضة الثورة، للمرة الأولى، في شكل مجرّد وسط راية حمراء، وارتبطتْ ارتباطاً عضوياً بهذه الجماعة التي عُرفت بمحاربتها للفاشية ومناصرتها للاتحاد السوفياتي، وضمّت 130 ألف عضو في 1929، قبل أن تقوم دولة بروسيا الحرة بحلّها ومنعها. من ألمانيا، انتقل شعار قبضة الثورة إلى اسبانيا، في الثلاثينات، حيث تحوّل إلى قسم، وبات شعاراً "جمهورياً" في مواجهة حكم فرانكو خلال سنوات الحرب الأهلية، وأشهر صوره ملصق أنجزه الفنان التشكيلي خوان ميرو في باريس العام 1937. حمل هذا الملصق عبارة "ساعدوا إسبانيا"، وظهر فيه رجل يرفع قبضة عملاقة نحو الأعلى، في استعادة واضحة للإشارة التي تحوّلت في هذه الحقبة إلى رمز.

في 1937 كذلك، استعاد الفنان التشكيلي هوراسيو فيرير، هذه الحركة، في لوحة زيتية تصوّر الحرب الأهلية الاسبانية بأسلوب أكاديمي تقليدي. وفي عودة إلى النماذج الفرنسية الأولى التي تجعل من الثورة سيّدة تنتفض، ظهرت في القسم الأعلى من هذه اللوحة امرأة عارية الصدر ترفع قبضتها وهي تحدّق في الأعلى كأنها تستغيث بالخالق، وظهر في طرف القسم الأسفل طفل يبكي وهو يرفع ذراعه في حركة مماثلة. تظهر قبضة الثورة بشكل "حديث" في ملصق خوان ميرو، وتظهر بشكل "كلاسيكي" في زيتية هوراسيو فيرير، وتجدّدت بشكل مستمر في السنوات التالية في زمن احتدام الحرب العالمية الثانية، ومواجهة القوى "التقدّمية" للقوى النازية والفاشية.

دخلت قبضة الثورة، العالم العربي، مع انتشار الأنظمة الاشتراكية، وظهرت في أعمال عديدة، منها على سبيل المثال "نصب الحرية" الذي أنجزه جواد سليم في بغداد سنة 1961.  تتألف الجدارية من ثلاثة أقسام تمثل تباعاً: قبل الثورة، ويوم الثورة، وبعد الثورة. في القسم الأوسط، يظهر الجندي الباسل باسطاً ذراعيه وسجين ينطلق من خلف القضبان، وامرأة ترفع مشعل النور عالياً، وتجسّد الحرية. تمتد قبضة الثورة في أعلى هذا التأليف، وتشكّل عنصراً من عناصر هذه الصورة التعبيرية بامتياز. تظهر القبضة كذلك، في زيتية من توقيع فائق حسن، تجمع بين التكوين التكعيبي والنزق التعبيري، وفيها تحضر في ثلاثة أشكال من خلال ثلاث أذرع تمتد في الأفق. ونجد في نتاج النحات المصري جمال السجيني، عدداً من الأعمال التي تظهر فيها قبضة الثورة في أشكال أخرى ابتكرها الفنان بحس ورهافة.

تواصل ظهور قبضة الثورة في السنوات التالية، حينما سادت منظومة المقاومة بألوانها المتعددة، كما تشهد الملصقات السياسية التي تعود إلى هذه الحقبة. ونجد في كتاب "ملامح النزاع" لزينة معاصري، عدداً من الصور التي تظهر فيها القبضة خلال الحرب الأهلية اللبنانية، منها ملصقات للحركة الوطنية اللبنانية، تعود إلى السنوات الأولى من ثمانينات القرن الماضي، وأخرى للحزب التقدمي الاشتراكي أنجزت بين 1984 و1985. بدورها، تبنّت المقاومة الإسلامية قبضة الثورة نفسها التي جعلت منها "جمعية مقاتلي الجبهة الحمراء" شعاراً لها في 1924، وربطت بينها وبين الكفاح المسلّح.

تحضر قبضة الثورة اليوم في وسط بيروت، كما تحضر في البقاع الأوسط حيث رُفع مجسم لها في سعدنايل، وآخر في مجدل عنجر. ومع هذا الحضور المتجدّد، تتحوّل هذه القبضة إلى رمز لثورة من نوع جديد لم تكتمل صورتها بعد.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024