حدث الأحداث في لبنان

روجيه عوطة

الثلاثاء 2019/01/29
مع ملاحظة كيفية تلقي اللبنانيين لمونولوغ نصرالله، والمُسمّى حواراً، عبر قناة" الميادين"، فقد بدت إطلالته واقعة الواقعات في عيشهم. فها هو، وحين يتحدث، يفرج عن همّ كبير يشغلهم، وذلك لأن كل ما يدور في يومياتهم، على ألسنتهم، هواتفهم، شاشاتهم - ومع أنه كثير - يوحي بالركود، بالاستنقاع. نوع من الاستقرار المبتذل الذي يبدو كل شيء فيه رتيب وممل، حتى لو كان حرباً أو زلزالاً.

لكن، لماذا لا يكون نصرالله هو واقعة الواقعات، التي، وفي بلد كلبنان، تغير بلا أن تغير، طالما أن ما تودي اليه معلوم مسبقاً، بل إنه بالأحرى قائم من قبل؟ فها هو حزب الله ذهب إلى سوريا وعاد مع نظام بشار الأسد، ولم يحدث شيء. وها هو الأمن الرسمي يفبرك ويدحض الفبركة، ولا يحدث شيء. وها هي السياسة معدومة لدرجة انها لا تتم إنجازها البرفورمانسي الوحيد، وهو تأليف الحكومة، ولا يحدث شيء. وها هو الاقتصاد على وشك الانهيار، ولا يحدث شيء. وها هي الصحافة تقفل، ولا يحدث شيء. وها هو اجتماعنا يزداد انقساماً واحتداماً، ولا يحدث شيء. وها هي الثقافة تمعن في موتها، ولا يحدث شيء. ثم، بعد ذلك، ينظم الحزب الشيوعي اللبناني مظاهرة، يسرع انتقادها إليها قبل أن تسير، وفي النهاية، طبعاً، لا تخيبه، ولا يحدث شيء.

فبالتأكيد، سيكون نصرالله هو حدث الأحداث طالما كل تلك الوقائع تجعله على هذه الحال، وطالما أنه فعلياً، وبإطلالته التي تساوي وقوعه، لا يلخبط ركودها واستنقاعها البتة. فربما، قوة نصرالله ليست الكاريزما، بل في أنه يحقق للوقائع اياها ما تريده، وهو أن تكون بلا أثر، أن تمر كأنها عابرة، وألا تمر حتى، أي أن يحقق حلمها الأول والأخير: أن تكون مجرد أخبار معدة للتتابع والزوال. فحين يطل، تنتهي، ليبدأ "الخطاب" بوصفه أعلى شأناً منها، أي أنه يلامس "الحقيقة" أكثر منها.

وهنا، لا بد من التنبه الى أمر، وهو وصف ذلك "الخطاب" بكونه "حكياً"، وبالتالي هو إنتاج لحكاية تسرد ما مضى، ما يعني انه لا ينقطع عن المنحى الخبري، لكنه ينطوي عليه. فخطاب نصرالله يصحح الأخبار، التي يوفر لها تبددها، بأخباره الدائرة حول حلم آخر: أن تتحول من أخبار إلى إشارات. إذ يجري تحليلها كألغاز، كاستعارات، كشيفرات، وككل ما يفيد بأن مضمونها، وبحسب جملة عربية مدرسية، "لا يمكن سبر غوره"، وبالتالي تحتاج إلى تفسير. تماماً، وكما في حالة وليد جنبلاط، الذي، وما أن يغرد بأي عبارة في "تويتر"، حتى ينطلق تحليلها، بكاريكاتورية خالصة، لا سيما بسبب تلك الصور والايموتيكون التي يستعملها.

إنه الاعتقاد بأن خطاب السياسة يوحي ويومئ، بأنه خطاب السلطة التي تستند إلى الإبهام، التي لا يعرف "أسرارها" سوى القابضين عليها، "آلهتها" كما اعتادت جريدة "النهار" على وصفهم. فعلياً، هذا الاعتقاد يسجل البحث عن السلطة الغامضة كرد فعل على كون السلطة صارت واضحة للغاية إلى درجة لا يمكن تصديقها ولا تكذيبها. فتكرار أن نصرالله "صادق"، لا يعني انه يفي بوعوده وأنه مخلص لقوله، لا يعني كل هذه الدعاية، بل يعني أنه غامض، ينقذ من الاضطراب في التعامل مع سلطة الوضوح. فحتى عندما قال "لا شيء في حمص"، في حين كان حليفه الأسد يرتكب مجزرته بحق السوريين ويدمر مدينتهم، جرى تلقيه كأنه في أقصى "صدقه"، أي في اقصى غموضه، طالما أن عبارته تلك هي خبر وقد صار إشارة، مستدعية التعامل معها على أساس أنها طلسم.

عندما يكون نصرالله هو الحدث الذي يخبر ويشير، بعد كل الأحداث التي تتوالى وتنمحي، يغدو مقصدها، وذلك بالتوازي مع تحوله إلى مقصد السلطات، مقصد كل سلطة في لبنان، بعد أن تنكشف وتتضح. ولأنه ذهاب إلى أوج، هو بمثابة تقهقر إلى حدث وسلطة غامضين، بحيث أن تعديهما أعادهما، وما دورهما سوى السهر على زوال الأحداث ووضوح السلطات. من يتذكر الربط التلفزيوني الذي تؤديه المذيعات بين فقرتين، والذي جرى التخلص منه بسبب سيل جارف من البرامج التلفزيونية المتواصلة والمفتوحة على بعضها البعض؟ هذا ما يسترجعه موقع نصرالله، الذي يوقف أحداثاً بحدثه، وأخباراً بإشاراته، وسلطات واضحة بسلطة غموضه، فتتوقف كلها عليه، لا ليربطها بغيرها، إنما ليربطها بنفسها، أي ليطلقها من جديد، ويكون هو الفقرة الأخيرة. كأنما، من بعده، ينقطع إرسال لبنان. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024