ملاهي الدرويش: بيروت في رحلة هجرة الفن السوري

علاء رشيدي

الخميس 2020/08/27
يختلف العالم الفكري والفني الذي يقترحه الفنان السوري هاني السواح (الدرويش)، في ألبومه الثاني "ملاهي"، عن ذلك العالم الفكري والفني الذي أنتجه في ألبومه الأول "أرض السمك". فالموسيقى أكثر مينمالية، كما أن الموضوعات الفكرية الكبرى، من الثورة إلى الحياة والموت، خفت حدتها الإنفعالية لصالح موضوعات أكثر يومية. فبيروت تحتل مساحة واسعة من الألبوم، لكن المؤلف أصر أيضاً على أن تكون هناك أغنيات مؤلفة بشكل خاص للأمل في الثورة والتغيير.


يتألف الألبوم من 12 تراك. الأغنية الأولى "طبق اليوم"، هزلية تحاكي لغة الطبخ، لتقدم موضوعات من الحياة اليومية: العادة والحب، الأمراض والسعادة، التشاؤم والتفاؤل، ومأساة اللاجئين الذين خسروا المنازل. يهدي الفنان ألبومه بسخرية إلى أولئك الذين لم يؤمنوا بفنه، وكذلك إلى أولئك الذين ساعدوه في الوصول إلى تحقيق موسيقاه. يوضح هذا الإهداء الصعوبات التي يقابلها الفنان في المنطقة العربية، في حال رغبته العيش لأجل فنه: "الموسيقى ما بتطعمي خبز، بس ليكني عم بآكل".

الأغنية الثانية "ضوجي"، هي دعوة للفاعلية، للإنتاج. كما في أغنيته "روقي"، تحضر الأنثى كمُخاطَب(ة) في ألبوم "أرض السمك". وعند سؤال الفنان عنها، أجاب: "ضوجي هي عكس روقي، وكان الهدف منها نقل المخاطب المؤنث من الغزل إلى الغضب، وعم خاطب موسيقتي وقلها تضوج لأنه الكل عم يأجل الشغل اللي بيني وبينه". إذاً، الفنان يخاطب موسيقاه بأن تضوج، بأن تنتج العمل تلو الآخر. في هذه الأغنية، تحضر للمرة الأولى في أعمال الدرويش كلمات باللغة الإنكليزية. يتضح أن الفنان يحوم بين ثقافتين. هل بيروت المدينة وضعته أمام هذه الأسئلة؟ "بيض أو أومليت؟ عجة. عم حاول قول مدام وهي بتسمع حجة".

تحضر الأسئلة الذاتية في هذه الأغنية: "ضوجي، اكتمل نضوجي"، وكذلك تعريف للجنون: "الجنون هو توقع نتائج مختلفة من تكرار التجربة نفسها". ومع تقدم الأغنية نكتشف أن الدعوة إلى الضوجان والحركة تعني الدعوة إلى التمرد، إلى كسر الخوف، إنه السعي المرافق لاستمرارية الحياة: "خذوا دقيقة صمت للي مات، أنا بضوج لأني حي".
 


الأغنية الثالثة "غنية ألنا"، مخصصة للأمل السوري، خصوصاً لأولئك الذين بقوا في سوريا، بمقدار ما تحمل الأغنية من الحنين، تحمل إيماناً بالعودة إلى إعادة الإعمار. تروي الأغنية قصة الدرويش الذي خرج من سوريا إلى بيروت، ليس طلباً للمجد بل كمحاولة للبحث عن الحياة. يصف بيروت بمدينة الشتات، التي دفعته لمواجهة أسئلة ذاته، فما كان منه إلا الرد بكتابة نص هذه الأغنية: "هادا مو أمل وهمي ببكرا هي غنية ألنا، ألكن، للي بقيوا جوا". تجترح الأغنية الأمل من الموات. فرغم أنف الموت، هناك من يُحيون السهر في ليالي البلد، ورغم أن القصف دمر البيوت، لكن مازال هناك من يحلم بالبلد. يؤمن المؤلف بالذين يستمرون في النضال، الغناء، رواية القصص، كي لا يستولي الآخرون على القصص فيروونها نيابة عنّا، يقارب المؤلف بين النضال وبين الإبداع الفني من الغناء ورواية القصص.


أغنية "جرعة زائدة" تفتتح بمجموعة أسئلة عن العلاقة مع الماضي، مع الحداثة، ومع الثورات. إنها أسئلة جيل ولد على انحراف في الممارسات الأخلاقية، تغييباً للضمير، إنقلاب في معايير الحكم، على ما هو أخلاقي وغير أخلاقي. فتصوب الأغنية بأن الجريمة ليست تناول الممنوعات، بل التبعية للمال أو للتنظيم أو للدين. يجد المؤلف أن رجال السياسية هم مَن يرتكبون الجرائم الحقيقة، وليس الجيل الذين يواجه كل هذه الأسئلة الأخلاقية بصعوبة.

في أغنية "إيه يا بلد" يقول المغني: "نحن صدمة بعيون ولد شهد كيف بلعنا بعض"، وأيضاً في أغنية "راكض" يتابع على تيمة الطفولة المصدومة بأخلاقيات العالم. لكن هذه المرة، طفولته الذاتية. تصف الأغنية طفلاً في حالة الركض، تتالى عليه التجارب والحكايات، تراوده الأسئلة عن الوصايا، عن الثقة، عن الصداقة، عن الرؤى، وعن الذاكرة. يقع حائراً بين سؤال العودة إلى البلد وبين الهجرة. الأغنية تحمل وعياً طفولياً أسئلة النضوج والحياة.

تراك "جارتي" هو إلقاء سردي. من خلال حكاية الفنان مع جارته، يفتح على الموضوعات السياسية، الإجتماعية، والمعيشية في بيروت. جارته البيروتية تنتمي إلى تيار سياسي يجد في اللاجئين عبئاً، بينما يحاول الفنان أن يقنعها بأن السلطة تفرق بين الناس على أساس الهويات الإدارية. ويذكّر الرواي بدور العمال السوريين في بناء المدينة، ويبين أن الخطاب العنصري يزرع الكراهية بين الفئات الإجتماعية التي تعاني المأساة الواحدة.

الأغنية التي يحمل الألبوم عنوانها، "ملاهي"، تتسم بطابع عاطفي، إنها دعوة تقليدية إلى الحب، تصبح مهارة الأغنية في صياغة مفاهيم عن الحب. فكل ما يعيشه العاشق، سوى عشقه، هو الشك، محبوبته هي يقينه. يدعوها إلى اللقاء، إلى اللهو، إلى القُبلات خلف السور، إلى التعب والراحة معاً. يقول المغني لحبيبته إن الإستمتاع بالحياة يساعد على مواجهة الموت بوقاحة. تتشح الأغنية ولحنها بنفحة تجمع الرومانسية بالميلانكولية، ومع ذلك هي تضمر بهجة مقنَّعة بالحب.

أغنية "عالي واطي" بمشاركة الفنان مازن السيد (الراس)، تتعلق بمفاهيم الوعي والغياب، العقل والمخ. في القسم الخاص بالدرويش من الأغنية، يبين إصراره على الغناء، الدفاع عن أرواح أصدقائه الموتى: "ما رح وقف لو صارت أقطابك بالعكس، لو عاد التاريخ مرتين حاله وفشل، ولو انتهى التاريخ بالأمس". أما القسم الخاص بالراس، فيتحدث عن مشاعر الفنان قبل الظهور على المسرح، ومقدار الجهود الذي يبذلها الفنان بين الوعي والنفس والذات، ليبلغ الدرجة الراغب في أدائها من فنه.

أغنية "بدي" تجمع أهم المبادئ والأفكار التي توجه الفنان الدرويش في عمله. يعلن رغبته في إضاءة العتم، فتح الدروب للذين يستحقون، أن يكون عيناً للرؤية، إذناً للإنصات، ودليلاً في درب التائهين. ينتصر الفنان فيها للعقل، للقصة بدلاً من الحرب، يطلب مدينة يسكن وجدانها، وأخيراً يتمنى أن يمتلك وعياً نقدياً قادراً على مراجعة أفعاله، ممارساته، للتفوق عليها بين المرة والأخرى. يفصل الفنان بين شخصيته الحقيقة (هاني السواح) وبين شخصيته الفنية (الدرويش)، يعزل كلاً منهما عن الأخرى ليخلق بينهما تنافساً، جدلاً، وحين سؤاله عن العلاقة بينهما، أجاب: "إن ما أقوله بلسان الدرويش هو برأيي ما يشبه فطرتي وما أريد أن أكون، من دون ضوابط مجتمعية تقع على كاهل الشخصية الحقيقية، هاني.. فالدرويش ليس جزءاً من الحياة اليومية مثل هاني، بل يأخذ دور المراقب ليخلص الى آراء وتطلعات، على عكس الثاني المندمج في الحياة اليومية".

لا شك أن ما يميز ألبوم "ملاهي" هو حضور بيروت لتمتد على كامل عوالم الألبوم، فيها أسئلة الفنان الملتزم بعد الرحيل عن سوريا، فيها أسئلة الإحتكاك مع مواضيع سياسية جديدة وثقافة مجتمعية جديدة. التراك الأخير في الألبوم، "سافر حبيبي"، موسيقى لحنية تعبر عن الهجرة، وفعلاً فقد انتقل الفنان الدرويش من بيروت إلى برلين لاحقاً بعد أشهر من نشر الألبوم، الذي يمكن اعتباره المرحلة البيروتية في رحلة هجرة لفنان سوري ملتزم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024