مُخرجة "أرض العسل" تحكي لـ"المدن": الفقر، النحل، الغناء

محمد صبحي

الثلاثاء 2020/02/04
يبدو الأمر مثل ظاهرة ملازمة للوثائقيات الجيدة: فقط ساعة ونصف، ساعتان، ربما ساعتان ونصف تمرّ، ثم لا شيء يبقى على حاله كما كان. أفلام قادرة على جعل عالم، شبه مجهول سلفاً وربما لا يثير اهتماماً كبيراً لديك، فجأة يصير فاتناً ولا يفلتك سحره. الكاميرا الوثائقية تعطينا ثقة غير محددة، وفي الوقت نفسه تغرينا بأسرار نتورّط في اكتشافها. "أرض العسل" واحد من هذه الأفلام الوثائقية.


فيلم يستكشف حياة وعمل مربية نحل في جبال شمال مقدونيا، تَفِد في قلب سرديته البسيطة أسئلة أعمق حول مروحة من القضايا. ومثل أي فيلم وثائقي جيد، "أرض العسل" قادر على صنع قصة رمزية. كما لو بالصدفة تقريباً، أو كما هو الحال في فيلم روائي طويل، تبرز مشاهد تطرح أسئلة اجتماعية وسياسية حالية أكثر إثارة من أي افتتاحية صحافية: كيف يمكن الحفاظ على التوازن في إنتاج الغذاء، وكيف يمكن ممارسة الزراعة المستدامة؟ كيف تتعامل مع أفراد الأسرة المحتاجين لرعاية؟ وهل الغناء يجعل كل شيء أسهل؟

"أرض العسل" يدور حول الطبيعة، والوئام معها، والتواصل، والتكافل البيئي، والتوازن، وكرامة العمل. وبالطبع حول شخصية قوية جداً. خديجة. "عندما وقفت خديجة أمامنا، علمنا على الفور أننا نتعامل مع شخص مميز"، تقول المخرجة تمارا كوتيفيسكا ((1993 – بريليب، مقدونيا). قولٌ لا يعزز صحّته سوى مشاهدة الفيلم نفسه، بما يعني الوقوع في حبّ بطلته خديجة والمناظر الطبيعية التي تتحرك خلالها. إنها أخيرة سلالة محتضرة، تحيا نمط عيش يكاد يختفي. وهي امرأة وحيدة تحافظ على الطريقة التقليدية في تربية النحل، وتناضل في تمسّكها بأسلوب حياتها. تعيش هذه النحّالة في مكان جبلي ناء، يحمي بساطته بُعده من أقرب مدينة حوالى أربع ساعات، وهي المدة نفسها التي تسيرها خديجة يومياً تقريباً للوصول إلى السوق وبيع عسلها.

وبصفتها امرأة وحيدة في الجبال، ترتبط بمنزلها الصغير الذي تعيش فيه مع أمها المسّنة الصمّاء العاجزة عن الحركة. لكن قصة خديجة هي أيضاً قصة نحلها الملتقَط والمحفوظ وعلاقتها الحميمة به، وعسلها المنتج بطريقة لا تقلّ لطفاً، وظروف عيش متغيّرة كالجيران النازلين فجأة ليزاحموها في أكل عيشها. حكاية بسيطة وحرب تجارية صامتة، رغم ميكروسكوبية نطاقها، تُبرز إلى السطح أفكار أوسع حول ممارسات تجارية جشعة تجري على نطاق معولم، ودواخل نفوس بشرية تلهج في سعي ملتاث وراء حلب ثروات صغيرة بأي طريقة من دون أي اعتبار سوى المكسب السريع.

خطة تصوير بسيطة ومصادفة أنتجتا تحفة سينمائية صغيرة لا تغادر بطلتها الذاكرة بسهولة. كتب والتر بنيامين أن التجربة التي تنتقل من الفم إلى الفم، هي المصدر الذي استخلص منه جميع الرواة. و"أرض العسل"، بمزيجه الذكي السحري، يقول شيئاً عن قوة ومستقبل السينما، حيث الروائي يبدو كوثائقي، والعكس.

مطلع العام الماضي، فاز "هاني لاند" بثلاث جوائز في مهرجان صندانس السينمائي، والآن يحظى بمسيرة نصر كبيرة يجوب فيها العالم، بعد ترشحه لجائزتي أوسكار أفضل فيلم وثائقي وأفضل فيلم دولي لعام 2020، ليكون بذلك ثاني فيلم مقدوني يترشّح لأوسكار بعد "بيفور ذي راين" (1994، ميلشو مانشفيسكي)، ويدشّن بذلك المرة الأولى في تاريخ الأوسكار التي يترشح فيها فيلم واحد لهاتين الجائزتين.

 "المدن" التقت مخرجته تمارا كوتيفيسكا للحديث عن فيلمها.

 

 
كيف بدأ كل هذا؟

لم يكن أحد منا يعرف أي شيء عن النحل. لم نكن مهتمين بشكل خاص بالنحل عندما بدأنا في صنع هذا الفيلم. بل يمكنك أن تقول أن هذا الفيلم ليس عن النحل.
كنا (اشترك في الإخراج ليوبيمور ستيفانوف - المحرر) نصنع في الواقع فيلماً وثائقياً قصيراً لصالح إحدى المنظمات البيئية، محور تركيزه نهر كبير شمالي مقدونيا، لكن كانت لدينا حرية اختيار الموضوع. خلال بحثنا، لفتت انتباهنا خلايا نحل في الجدران الصخرية لوادٍ يتدفق النهر عبره. بدت خلايا النحل تلك رائعة، بثقوبها الصغيرة في وجه الصخر. هناك تعثّرنا بشقيقين يتسلقان الجبال ويصطادان النحل من بين الصخور. هبطا إلينا بالحبال، وسجّلنا معهما، لكننا سرعان ما اكتشفنا أنه لم يكن هناك شيء أكثر إثارة للاهتمام لنقوله عنهما. لذلك لم يكونا مناسبين لفيلم وثائقي. لكن بعد ذلك عرفنا شقيقتهما، خديجة.
على الفور، اتضح لنا أن لدينا شخصاً خاصاً من أجلنا، ليس فقط بسبب مظهرها، لكن أيضاً بسبب قصتها. فهي، على عكس إخوتها، لا تعيش في مدينة، بل في قرية بعيدة منها هي ساكنتها الوحيدة، حيث تعيش مع والدتها في منزل صغير لا تستطيع مغادرته، بسبب حالة والدتها الصحّية. وعلى عكس إخوتها أيضاً، تلتزم بقاعدة 50/50، كما تراها في الفيلم. شعارها هو نصف العسل لي، والنصف الآخر للنحل. هذا جعل القصة أكثر جمالاً وإلحاحاً بالنسبة إلينا. إنها آخر مربية نحل في هذه المنطقة الواسعة المهجورة.

- هل وافقت خديجة على تصويرها فوراً؟ وكيف تطوّرت العلاقة معها؟

نعم. الشيء المثير بخصوصها هو أنها شخص اجتماعي للغاية. موهوبة اجتماعياً. إنها تحب الناس حقاً. لكن قدرها هو أن تبقى في هذا المكان، بسبب والدتها المريضة. لذا في كل مرة تتماس مع الناس، تزدهر وتضيء. عندما أخبرناها بنيّتنا عمل فيلم عنها، كانت سعيدة للغاية. قفزت. هذا نادر جداً بالنسبة لفيلم وثائقي، فعادة ما تصادف العكس.
نحن في الواقع أسرتها حتى يومنا هذا. أثناء التصوير، لم نقدِّم لشخصياتنا الرئيسة شيئاً، ولا حتى راتباً. في الأفلام الوثائقية، يمكن أن يصبح ذلك مخاطرة كبيرة. أنت لا تريد أن تجعل أي شخص يشعر بالرشوة أو التصرُّف حسب الطلب. تريد عرض القصة الحقيقية كما هي. بعد ذلك، سألنا خديجة عما يمكن أن نفعله لها، فسألتنا إذا كان بإمكاننا مساعدتها في العثور على منزل بالقرب من إخوتها. لذلك، عندما حصلنا على المنحة الأولى من مهرجان سراييفو السينمائي، اشترينا لها منزلاً.

- كيف يمكنكِ، بصفتك صانعة أفلام وثائقية، تقرير خياراتك في غرفة المونتاج؟

كل ما يحدث في الفيلم هو اختيارنا ومسؤوليتنا كمؤلفين. في غرفة المونتاج، قمنا بجمع حصيلة 100 يوم من التصوير و400 ساعة تسجيل، واستخلصنا منها قصة واحدة. بسبب عدم ترجمة الكثير من المواد - يتحدث الجيران التركية - قمنا أولاً بالمونتاج اعتماداً على حدسنا البصري، إن جاز التعبير، أي تلك المشاهد الممكن فهمها من دون الحاجة إلى ترجمة. في النهاية، توصّلنا إلى بنية درامية كلاسيكية للغاية، مع بداية وصراع وحلّ. ونتيجة قيامنا بمونتاج مواد الفيلم بطريقة غير مرتبة زمنياً، كان علينا التضحية في بعض الأحيان ببعض المشاهد لأن الأطفال أضحوا فيها أصغر عمراً بسنة.

- ما نوع الفيلم الذي خرج في النهاية؟ وثائقي، روائي، هجين؟

رغم اضطرارنا في بعض الأحيان إلى إزالة أحاديث تشير إلى أشياء تحدث لاحقاً في خطة تصوير الفيلم، إلا أننا نسميه "وثائقياً رصدياً" لأننا شهدنا بالكاميرا كل ما يحدث في الفيلم. لم نقم بأي تدخلات أثناء التصوير. لكن بسبب المونتاج، قد تضطر إلى القول إنه فيلم هجين.

- في الفيلم، نرى أحياناً سلوكاً متهوراً لأطفال جيران خديجة، الذين يتعرضون أيضاً للسعات النحل. أين ترين الحدود الأخلاقية؟ متى يجب أن يتدخل صانع الفيلم؟

أراها على هذا النحو: إذا كنت سأخرج الآن بكاميرا ورأيت طفلاً يغرق، سأرمي الكاميرا بعيداً وأهرع لإنقاذه. في حالتنا، عندما تقوم بصناعة فيلم وثائقي وتختار موضوعاً، يجب أن تكون مستعداً لما ستراه وكيف ستتفاعل معه.
راقبنا هؤلاء الأشخاص لستة شهور قبل أن نبدأ التصوير، وفي تلك المدة رأينا كيف تسير أمورهم وعرفنا: هكذا يعيشون، وهذه هي طريقتهم في تصريف الأمور. في بعض الأحيان، بالطبع، عرضنا تقديم ​​المساعدة، لكن إذا رفضوا، فالأمر محسوم. بالنسبة للباقي: أنت لا تتدخل بينما تصوِّر. مهما كان الأمر، ففي النهاية ستغادرهم، وسيبقون في مكانهم. كل شيء سيستمر، في وجودك أو في غيابك.

- بالنسبة إلى الخطّ الدرامي لفيلمك، كنتم محظوظين للغاية بوجود جيران جدد دخلت معهم خديجة في نوع من الصراع.

الجيران هم عائلة مزارعة مرتحلة تأتي إلى هناك كل صيف. المرة الأولى التي صوّرنا فيها، تجاهلناهم، لأن هذه منطقة يوجد فيها كثير من مربي الماشية المتجولين. فقط، بعد أربعة أشهر، اكتشفنا أن لديهم تاريخاً طويلاً مع خديجة. ليس فقط بسبب النحل، فالندوب على وجهها، على سبيل المثال، نجمت عن عضّة من قبل راعيهم الألماني المسؤول عن ماشيتهم، لكن لأننا أردنا التركيز على النحل تركنا ذلك خارج القصة. عندما عرفناهم بشكل أفضل، قررنا تضمينهم في الفيلم وصوّرنا وصولهم بعد عام. بالأحرى، مشاهدهم في الفيلم هي مزيج من وصولهم في العام الثاني، وتصويرنا لهم في العام الثالث اللذين قضيناهما هناك.

- تبرز المشاهد في منزل خديجة ووالدتها بشكل خاص. ذكّرتني كثيراً بكيارسكورو (طريقة توزيع الظل والضوء في الرسم) رامبراندت.

لا يمكنك التوصل سلفاً إلى شيء من هذا القبيل في فيلم وثائقي. لذا فإن الأساتذة الهولنديين مثل رامبراندت كانوا بالفعل مصدر إلهام لنا، لكن فقط لأننا رأينا التشابه عندما واجهنا الموقف. هؤلاء الرسامون، أيضاً، لم يتقصّدوا المشاركة في الكياروسكورو. لقد رسموا ما رأوه، وهذا ما كان يبدو عليه آنذاك. عاشت خديجة بالفعل في تلك الأيام، في تلك القرون الماضية، في الظروف نفسها التي صُنعت فيها هذه اللوحات. بالطبع لم يكن بإمكاننا تخيُل ذلك مسبقاً، ومن المستحيل كذلك اختراعه أو تزييفه. فهي تعيش بعيداً لدرجة أننا لم نتمكن من إحضار المعدات اللازمة لذلك. وحتى لو استطعنا ذلك، فصغر المنزل من الداخل لن يمكننا من الإعداد اللازم لتلك اللقطات. لذلك، حالما وجدنا الوقت المناسب من اليوم وزاوية التصوير الصحيحة، أدهشتنا نحن أيضاً مفاجأة النتيجة.

ثمة تباين تام بين المنطقة النائية في شمال مقدونيا وبين النجاح الذي حققه الفيلم عالمياً. صندانس، ومهرجانات أخرى، الأوسكار.. هل تحصل خديجة على أي شيء من هذا؟

بالتأكيد، نأخذها إلى أي مكان. في رحلات، إلى مهرجانات. كانت معنا في نيويورك قبل شهر، حيث فازت بجائزة "أفضل شخصية في فيلم وثائقي". على المسرح، شرعتْ في الغناء بأعلى صوتها. كان جميلاً جداً رؤية ذلك، ومختلفاً تماماً عما يتوقعه الجميع.

- هل يساعد فيلمك في رفع مستوى الوعي عالمياً حول مستعمرات النحل؟

أعتقد ذلك. نحن أنفسنا ما زلنا مندهشين من كيفية استقباله في كل مكان. وأفضل ما في الأمر أنه يترك التأثير نفسه تقريباً. على سبيل المثال، عرضنا الفيلم لقبيلة في كاليدونيا الجديدة [إقليم فرنسي في الخارج، شمال شرق أستراليا - المحرر] ، كان ردّ الفعل هو نفسه تقريباً في مانهاتن. حقيقة أنه ذو جاذبية عالمية يجعلنا سعداء للغاية. أشخاص مختلفون تماماً يمكنهم الاتصال إنسانياً مع هذا الفيلم. هذا شيء ثمين.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024