"لعلّ وعسى"لمحمد دايخ... الغمز من حزب الله والعنصرية

منى مرعي

الأحد 2019/08/04

يعد "لعل وعسى" العمل المسرحي الثالث كتابةً وإخراجاً لمحمد دايخ. هذا الشاب الآتي من معهد الفنون ليدير ثلاثة عشر ممثلا وممثلة على خشبة المسرح، هو خريج قسم السينما. كتب نصاً مسرحياً فيه من الطرافة والفكاهة ما يدعو الى التنبه لفطنته. على الرغم من بساطة الحكاية وحبكتها التي، تنقل للمشاهد أجواء موقع تصوير في يومِ صعب، إلا أن هنالك عناية باستحضار يوميات لا أهمية لها، بتلك العفوية المطلقة وتنميقها بإشارات سياسية، لم تأتِ بالصدفة البحتة. في تلك العفوية أيضاً، اشتغال على تركيب ثلاث عشرة شخصية، لكل منها حضورُ على الخشبة وغرض وهدف.


غياب الحبكة لصالح شخوص الدايخ

الممثلة المشهورة أميمة تلبس الدور، ثم تركض خلفه لأنه ترك الموقع، وفتاة الكلاكيت تعيد المشهد 69، ومهندس الصوت جان جاك يشكل خليطا من مجموعة مشاكل، أصيب بمس كهربائي على حالة صرع على حالة من يتعاطون السيمو والمسكنات، أما حيدر عامل الإضاءة فهو حكاية أخرى. يدير هؤلاء جميعاً مخرج موقع التصوير الأستاذ سمير الذي يلعب دوره مخرج العرض محمد الدايخ.

لا ضرورة للدخول في تفاصيل الحكاية والأحداث، لأن الحدث ليس مهماً بحد ذاته ولو أن هنالك جثة قتلت مرتين داخل الموقع التصوير. إنما الأهم هو مواقع هذه الشخصيات من بعضها البعض وتفاعلها وديناميتها وسلاسة النص الذي ينتقل من فكرة تسليع المرأة وتحويلها الى غرضٍ جنسي الى العنصرية ضد مدير التصوير السوري، الى فائض القوة عند حيدر الذي يضع قفازات صفراء بين يديه، الى المحقق الغبي الذي يمثل السلطة ويخاف وجود الجثة،  ويردّد مراراً أنه عندما تكون هنالك جريمة فواجب الدولة هو "إيجاد الجثة"، وفي كل ترداد من الأخير هنالك اشتغال على مفاصل الكوميديا. سمير الممثل البطل الذي يلعب دوره حسين قاووق وربيع الممثل الكومبارس، الأول كان في ما مضى سارقا وامتهن التمثيل والثاني سجن لتعاطيه الحشيش. إثنان يبنيان صداقتهما على سر ماضيهما الذي يجمعهما ويخفيانه عن الآخرين ويوزعان، بين الحين والآخر، جملةً واحدة من السيناريو يكررانها من بداية العرض الى النهاية. 


اشتغل الدايخ في "لعل وعسى" على كوميديا الصفات أو ما يعرف بـcomédie de caractères والتي وإن وجدت حبكة ما أو حكاية ما أو موقف ما، في حالة هذا العرض،  فهي ثانوية أمام الشخوص التي ودّ الدايخ إبرازها، لاعباً على خيط يتراوح بين واقعية الأداء وغروتسكية السلوك بحد ذاته، وهنا ما يجعل هذا العرض ملفتاً. يتمكن الدايخ من بناء ملكات نصه من خصال أناس نراهم كل يومٍ في الشارع حيث يكون وجودهم شائعاً لدرجة تجعلك تتساءل "لماذا لا أرى فعلة هذا الفرد بكل ما فيها من تفاهة على الشاشة أو على الخشبة وبكل ما فيها من من صدق معاً... تلك اللحظات الحقيقية التي تترك أثراً ما على الرغم من هامشية أحداثها”. شخصيات الدايخ أناس عاديون، عفويون، يعيشون على  الهامش، يظنون أن الكون يدور حولهم في الوقت نفسه. يحملون معهم كل التناقضات: عامل الإضاءة ببنية الضخمة كأنه النسخة المسرحية من شريك Shreck، الذي يبدو في أدنى مرتبة مهنية يخافه الجميع، الممثل السارق الذي يعرف أن المخرج قد يستبدله في أي لحظة ينتهز الفرصة ليمارس سلطته العبثية عبر "المنقوشة: نص زعتر نص زعتر، نص جبنة" على مدير الإنتاج، فتاة الكلاكيت- التي تعلم أنها موضوع رغبة مدير الإضاءة ومدير الإنتاج والمخرج-  تصدّ أحياناً وتلين أحياناً أخرى دون مبررات، وتظهر في مظهر عدائي فيه شيءُ من القبضنة، المحقق الجبان، أميمة الممثلة البطلة التي تعاني من أرق هروب الشخصية منها، ترفض تقبيل البطل من ناحية، وتكبت رغبةً جنسية جامحة من جهة أخرى. كل هذه التناقضات يمظهرها محمد الدايخ لاعباً على تموضع شخوصه وعلاقتهما بدينامية القوة التي تتبدل لدى الشخصيات.

طرق باب الضحك من زواريب الضاحية

 السياسة حاضرة في العرض بدهاء دون أن تحتل الواجهة. الغمز من قناة حزب الله وإبراز العنصرية ضد الوجود السوري، تفاصيل صغيرة أمام ديناميات القوة اليومية التي تبتدعها ليومياتها شخوص الدايخ. في هذا السياق، برع الدايخ في نقل حس فكاهة، جنوبي المنبع،  شيعي النفس دون أن يحوّل هذا الأمر لهدفٍ بحد ذاته: حيدر وسمير والمحقق ومساعده كلها شخصيات أساسية نمطية، على الأرجح أن الكاتب قد استلهم بعض صفاتها من حي ماضي في الضاحية الجنوبية حيث نشأ.. هذا ما يعطي ميزةً إضافية للعرض: اللعب على المكوّن الشيعي الشاب غير التقليدي دون استنزافه ودون الإفراط في الدلالة عليه كـ"مكوّن شيعي"، بل الإكتفاء بإبراز دينامية شخصيات آتية من خلفيات مختلفة في سياق العرض. من الملاحظ ان شخصية الهزلية الشيعية على الخشبة التي تبتعد عن النمط الريفي الفولكلوري، الذي قدمته أم طعان وأبو طعان في ما مضى، باتت موضع اهتمام وحشرية المشاهد منذ اشتغال يحيى جابر على مونودراما الهويات كاشفاً عن موهبتين فذتين هما أنجو ريحان وحسين قاووق. هنا يبرز كاتب العرض محمد دايخ، كمن يمشي على حبلٍ رفيع، جاعلاً من المكوّن الشيعي محرّك المسرحية من دون أن يكون هذا المكوّن هدفاً بحد ذاته، متحدثاً عن السياسة دون أن يستثمر في أي كلام، مدوزناً علاقة هذه الشخصيات ببعضها بعضاً، وردات فعلها ليخلق مواقف مبتكرة: كحكاية المنقوشة، أو بريك الغداء ورد فعل المخرج، نوم الممثل البطل الخ. يجيد الدايخ الإشتغال على لحظاتٍ تستند أولاً وآخراً على عنصر المفاجأة والتنافر وحسن ترتيب التناقضات وهذه من المكونات الأساسية لنظريات الكوميديا التي تحدث عنها كثيرون منهم الفلاسفة شوبنهاور وكانط وكيركغارد وغيرهم. يضبط المخرج الشاب إيقاع انفعالات شخصياته بعناية مركزاً على أصغر تفصيل حركي لممثليه. الصمت يأتي في مكانه وكذلك عنصر المفاجأة، قد يكون هنالك بعض الثغرات كاستنزاف تكرار مشهد الضجيج ذاته وصراخ مساعدة المخرج أو لربما قد يتطلب العرض نهايةً مختلفة، وقد يقول البعض أن السينوغرافيا متواضعة... ولكن ما يحسب للمخرج ولفريق عمله الذي يضم ثلاثة عشر ممثلة وممثلا، هو هذه الطاقة الإستثنائية في صناعة لحظات غايةً في عفويتها... وتلك القدرة الفريدة للنصٍ على الإضحاك.



*الممثلات والممثلون: حسن قاووق، حسن نابلسي، تمارا كرستينا، محمد دايخ، ماريا ناكوزي، جوزيف عقيقي، ترايسي يونس، أحمد بيضون، حسين دايخ، كنان عقاد، مجد غرزالدين، فرات بوكامل، نزيه عدره... على خشبة مسرح المدينة

 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024