هشام شرابي وسحر أنطون سعادة

محمد حجيري

الإثنين 2020/10/26
حتى الآن، لم أفهم سحر مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، أنطون سعادة الملقب بـ"الزعيم"، على بعض الشعراء والمثقفين والكتّاب في لبنان وسوريا وفلسطين، ومن بينهم هشام شرابي(*)، الذي مرت الذكرى الـ15 لرحيله... فصاحب "الجمر والرماد" الذي ولد في عكا الفلسطينية، انتقل العام 1938 مع عائلته الى بيروت، فانتسب إلى "الانترناشونال كوليدج" بداية، وفي خريف العام 1943 انتقل إلى الجامعة الأميركية التي درس فيها على يدي شارل عيساوي وشارل مالك، لكن أستاذه الحقيقي كان أنطون سعادة. ولهذا الانتماء قصة تروى..

في البداية كان هشام شرابي قومياً عربياً، وانضم الى "الحركة العربية السرية" التي قادها قسطنطين زريق، ومعه كل من شفيق جحا وكاظم الصلح وواصف كمال وممدوح السخن ودرويش المقدادي وغيرهم. وقد كلفه أستاذه شارل عيساوي بوضع دراسة عن الحزب السوري القومي الاجتماعي. وكانت هذه الدراسة، الباب الذي ولج منه شرابي لينتقل من الفكرة العربية الى الفكرة السورية بتأثير مباشر من أنطون سعادة. ومنذ ذلك الوقت صار من المجموعة اللصيقة بسعادة. 

والحال أن بدايات شرابي مع الحزب القومي وأنطون سعادة، إشارة بارزة إلى أنماط الانتماء حين يكون المرء لا يزال طريّ العود، تستهويه بعض الأفكار والمظاهر والعناصر والطقوس، هي بين العابرة والخطرة في الوقت نفسه... يروي شرابي في كتابه "الجمر والرماد/ ذكريات مثقف عربي": "في اوائل آذار سنة 1946 دعيت مع فؤاد نجار الى حضور الاحتفال بمولد سعادة (وكان أول آذار وأهم احتفال رسمي في الحزب) في بيت نعمة تابت... وصلنا الى البيت وهو في ناحية منطقة الغبيري في الضاحية الجنوبية، يومها ربما كان اسمها ساحل المتن الجنوبي...". يضيف شرابي: "دخلنا البهو فوجدناه يعج بالشبان والشابات، في جو مشبع بروح لم أعهدها من قبل. وابتدأ الاجتماع بنظام عسكري وتحيات ورفع أيد اثارت اعجابي وإعجاب فؤاد". هنا يكون السؤال ما الذي يجعل طالباً جامعياً مسحوراً بعراضة عسكرية تقام في عيد مولد او ميلاد زعيم حزبي؟ ما المغزى من أن يكون لزعيم حزبي احتفال عام بعيد مولد؟ بالطبع هذا جزء من الطقوس الفاشية التي على ما بدو، كان لها زمنها وكان جمهورها، وربما لا تزال ولكن بألوان مختلفة وشعارات معاد تدويرها".

وهشام شرابي الفلسطيني العكاوي البيروتي، العروبي اليساري المهاجر، بعد حضوره حفلة المولد وسماعه الخطب الرنانة، يقول "وفي نهاية الاجتماع خرجت من القاعة وقد تبخرت من نفسي آخر مشاعر العداوة نحو الحزب وحل محلها شعور عميق من التقدير والاحترام". وسرعان ما حضر حفلة استقبال سعادة بعد عودته من الارجنتين، وشاهد دموع القوميين وهتافاتهم لسعادة وسوريا في مطار بيروت، وسمع خطاب سعادة بناسه وقد بدأ يزايد على العروبيين بالعروبة وعروبة سوريا، ويهاجم الانعزاليين اللبنانيين والنظام الطائفي، وصدرت مذكرة توقيف بحقه وتوارى عن الأنظار في نواحي جبل لبنان، وكان طرد مجموعة بارزة من القياديين الحزبيين الذين حاولوا لبننة الحزب القومي.

كانت لدى سعادة "كاريزما هائلة"، و"من الصعب تفسير تأثيرها"، يقول هشام شرابي. "في كلامه وتحركه سيطرة تامة، لا يرفع صوته ولا يؤشر بيده". يضيف شرابي: "لم أشاهده مرة يعامل أحداً بخشونة أو تكبّر، بل كان أديباً شديد الحساسية لمشاعر الآخرين". ويفلسف سعادة الحياة ويعقد مسارها ببعض الكلام، يقول شرابي، "ولا أنسى بعد عودتي من شيكاغو سنة 1949 -قبل مصرعه ببضعه أشهر- عندما علم أني أحب فتاة أميركية وأنني أفكر بالعودة يوماً الى شيكاغو لمتابعة دراستي للدكتوراه. لم يقل لي: إنسَ الفتاة فعليك واجبات أخرى يجب تحملها، ولم يقدم إلي النصائح والارشادات، ولم يفرض عليّ رأيه بأي شكل من الأشكال. بل استدعاني إلى مكتبه وسألني ان كان لدي وقت لتمضية اليوم التالي معه، فقلت له بالطبع. وفي اليوم التالي مررت إلى بيته الواقع بالقرب من مستشفى خالدي، فوجدته قد أعد العدة لتمضية اليوم بكامله على شاطئ البحر مستعيرًا شاليه مدام روضة في بلاج السان سيمون. وسبحنا وركضنا وتناولنا الغداء على الشرفة المطلة على البحر، وتحدثنا في موضوعات مختلفة. وأخيراً قال لي: انت تعرف ان العاطفة في حياتنا شيء ينبغي أن نصارعه ونتغلب عليه. وان لم نفعل ذلك لا نقدر على تحقيق شيء مهم في الحياة. وبعد قليل، قال: أنا أعرف شعورك وأقدره. أنا مررت بالتجربة نفسها. لكن أقول لك بصدق واخلاص أني في كل مرة كان هناك تضارب أو تناقض في حياتي بين العاطفة والواجب، دائماً وضعت الواجب أولاً، والعواطف رميتها على الأرض ودستها بقدمي... كان هذا كل ما قاله في الموضوع، ولم يعد إليه اطلاقاً، وقررتُ البقاء في بيروت". 

هكذا بدا إعجاب شرابي بسعادة أسطورياً، إلغاء للذات في موضع حب قائد الجماعة ومخلّصهم: "طغت شخصية سعادة عليّ كلياً، فلم يكن باسطاعتي إثارة التساؤلات التي بدأ البعض، مثل فايز صايغ، غسان تويني وكريم عزقول، يثيرونها حول موضوعات مبدئية وعقائدية وتنظيمية. فأخذت موقعاً مؤيداً مئة بالمئة، رافضاً كل نقد أو معارضة، ولم أثر معه (كما ربما كان عليّ أن أفعل) موضوع التغيير الذي أحدثه في صلب العقيدة بعد عودته من الأرجنتين". فالزعيم الذي طرد شخصيات بارزة في الحزب لأنها كانت تميل الى لبننة الحزب، وضع "تحديداً جديداً لمفهوم الوطن السوري، فأصبح الهلال السوري الخصيب، بعدما كان يقتصر على سورية التاريخية (أي لبنان وفلسطين وسوريا وشرق الأردن) مضيفا بذلك العراق الكويت وقبرص إلى مفهوم الوطن السوري، وذلك من دون مراجعة الحزب او أخذ موافقة المجلس الأعلى". هكذا كانت خريطة سوريا الكبرى بالنسبة إلى سعادة مجرد "خط في الرمال" كما عنون البريطاني جايمس بار كتابه عن الشرق الأوسط وسايكس بيكو، يرسم سعادة خريطة سوريا، يضم اليها العراق لأنها تحتوي النفط ويضع للهلال نجمة اسمها قبرص.

يعترف شرابي بلا مواربة: "كنت غير قادر نفسياً على معارضة سعادة أو مجابهته سلبياً بأي موضوع"... "آمنت بسعادة، بأفكاري كلها ومشاعري كلها. وكان بالنسبة اليّ القائد والبطل (الأب المثالي)"، على أن شرابي الذي غادر الحزب القومي بعد اغتيال عدنان المالكي العام 1955، يقول "كان لا بد لعلاقتي بسعادة وبالحزب ان تتحول من علاقة تابعة إلى علاقة جدلية. هذا تحول محتوم، فهو تم نتيجة لعملية نضوح الفرد ونموه النفسي وتوصله الى مستوى معين من الوعي". وهذا يتجلى بوضوح في كتابات شرابي اللاحقة وأنماط تفكيره...

لا بدّ من التذكير هنا، ان هشام شرابي المسحور بشخصية أنطون سعادة، ينتقد شخصية شارل مالك الساحر للجبهة اللبنانية وغسان تويني وبشير الجميل وسمير جعجع والكثير من "وجهاء الثقافة" المسيحية المشرقية. يقول: "تذكرت وأنا استمع اليه أنواع الغطرسة وأساليب التهكم الفكري التي أخضعنا إليها خلال دراستنا في الجامعة. لم يعد يخيفني الآن، بل يثير في نفسي الملل. أقواله وأفكاره دفاعية خالصة هدفها فرض نفسه على مستمعيه. ولم أنس حادثة، صغيرة بحد ذاتها لكنها في غاية الأهمية بمدلولها في تلك السنة، كان مكتبي في بلس هول مواجهاً لمكتبه، فجاء مرة وقال لي إنه يود ان يحدثني بأمر مهم. فذهبت الى مكتبه واغلق الباب خلفي واجلسني في مقعد مقابل لمقعده وقال: سمعت أن مجلة "الصياد" تقول انك ماركسي، صحيح هذه الكلام؟ ثم قال: أنا يهمني أمرك. يجب ان نتكلم في الموضوع بصراحة. الماركسي شيء غير معقول. وأنا لا أصدق أنك يمكن أن تسير في هذا الطريق"... وأضاف شرابي: "لم يزعجني تساؤله بقدر ما آلمني الاحتقار الذي انطوى عليه بإثارة الموضوع بهذا الشكل الأبوي المتعالي. كنت أعتقد أن علاقتنا تقوم على المساواة والاحترام المتبادل، فتكشف لي ان العلاقة كانت وحيدة الجانب، تقوم من جانبه عل الاخضاع والسيطرة، ويتوقع أن تقوم من جانبي على التسليم والتبعية".(...) في سنة 1945 غادرَنا الدكتور مالك ليصبح وزير لبنان المفوض في واشنطن. وأقمنا له قبل مغادرته حفلة... لم يخطر في بالنا آنذاك أن ما سيفعله مالك في الولايات المتحدة هو التخصص في مهاجمة الشيوعية ومدح المسيحية ودعم الحرب الباردة ليعود الى لبنان ويصبح ايديولوجي اليمين المسيحي المتعصب".

(*) في سياق هذه المقالة نفسها، سبق أن كتبنا عن عن الباحث السوري المقيم في اميركا حليم بركات.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024