تظاهرات طلاب لبنان منذ الأربعينات.. والسلطة على جشعها!

محمد حجيري

الخميس 2019/11/07
من دون شك أن الناشطين في التظاهرات الاحتجاجية الشعبية السلمية في لبنان، ضد نظام المحاصصة والصفقات والضرائب والوجوه المستفزة، يحاولون كل يوم ابتكار أنماط جديدة للتعبير عن موقفهم وسخطهم من الوضع القائم والسلطة الجشعة والمتوحشة. 

بداية كان نزول المتظاهرين العفوي إلى الشوارع والساحات، والخروج "الثوري" على الغيتوات الطائفية وشرانق الزبائنية السياسية والنفعية، وترافق ذلك مع الشتائم النابية والنارية والصاخبة لبعض السياسيين على ايقاع الموسيقى الالكترونية، مع ما تحمله الشتيمة من معانٍ دسمة ومعبّرة و"جميلة" وثاقبة تصيب في الصميم... وبعض الأشخاص وجدوا في الجدران ملاذاً لمواقفهم، فرسموا الغرافيتي، المتراوح بين الجميل المنسق، والشتائمي "الأزعر" الذي يتخطى سقف اللغة والمواقف، مجموعات اختارت قطع الطرق بالأجساد والسيارات أو بالتراب والعوارض الحديدية والأخشاب، ومجموعات اخرى شاركت في السلسلة البشرية على طول الساحل اللبناني.
وتظاهر طلاب الثانويات رداً على الراهبة الاستبدادية في منطقة عبرا ورفضاً لسياسة التهجير السائدة للجيل الجديد من الطلاب، ولم يكن الختام تظاهرة النساء والأمهات في رياض الصلح. وما بين الكل خرج الناس على الشرفات في أكثر من مدينة لبنانية، أو نزلوا إلى الشارع حملوا طناجرهم وقرعوا عليها، وأرفقوها بهتاف الثورة اللبنانية الأبرز "كلن يعني كلن" مصاحبةً "كلن فقرونا… كلن نهبونا"، ولم يسلم هذا النمط الاحتاجاجي من تأويلات "نظريات المؤامرة"، ومعلوم أن قرع الأواني أو الطناجر طقس شعبي عالمي للاحتجاج السلمي، تختلف الروايات بشأن نشأته...

ورغم كل ما حصل في الشارع، تبدو السلطة غير معنية بما يجري، بل تلجأ الى التشويه والتشهير. مرة تقول إن المعتصمين يمارسون الجنس في الخيم، ومرة تحذر من اتصالات يجريها العدو بالطلاب عبر الواتس آب، ومرات ومرات يقول بعض أبواق الممانعة ان المحتجين يتلقون السندويشات من السفارات، ويحذرون من الدور الأميركي في توتير الوضع في لبنان... وعدا ذلك، نُقل عن رئيس البلاد أنه لن يجري استشارات حكومية تحت ضغط الشارع، بينما يحاول الثنائي باسيل والحريري إعادة انتاج سلطة جديدة بقوالب من حواضر المجلس النيابي.

والحق أن السلطة في لبنان، وإن كانت ليّنة بعض الشيء في الشارع، فهي تتصرف في اغلب الأوقات بجشع سافل، اليوم وغداً ومنذ عقود... ففي خضم التظاهرات الراهنة والاحتجاجات، ثمة من يستعيد "أنتيكا" من الماضي، تظهر دورة الزمن والتشابة بين الماضي والحاضر. جيل السبعينات تذكروا زمنهم وتظاهراتهم ومجموعات كانت تحتج وتعترض وتصطدم بفرق الشرطة اللبنانية، وسرعان ما دخل جيل الشباب. ما قبل السبعينات كانت هناك تظاهرات أيضاً، وثمة من نبش من الأرشيف صفحة من مجلة "المصور" تعود الى اواخر الأربعينيات او بداية الخمسينيات تعبّر عن الواقع الراهن، وتعبّر بشكل فج عن سلوك السلطة، وهنا الأمر ليس مع أمثال جبران باسيل وفرقته وجشعهم، بل مع وزير مرن وعاقل...

كتب مراسل "المصور" في بيروت أنه رغم النسبة المرتفعة من المتعلمين في بيروت، فهي لا تضمّ جامعة وطنية، وانما تضم جامعتين إحداهما فرنسية والثانية أميركية، والتعليم في هاتين الجامعتين الاجنبيتين، فضلاً عن أنه موجه توجيهاً خاصاً من الناحية الوطنية، فهو يكلّف الطلاب نفقات باهظة، لا تستطيع النهوض بها إلا الأسر الغنية، لا سيما اذا كان في الأسرة الواحدة أكثر من ابن/ة في سن الدراسة يتطلب تعليمهم الثانوي نفقات كبيرة. ذلك أن التعليم الثانوي نفسه، لا يدرس في مدارس رسمية بل في مدارس طائفية تتقاضى أجواراً عالية.

وأضاف كاتب "المصور": وقد تنادى طلاب الكليات الى بحث هذه القضية في ضوء الأزمة الاقتصادية المستحكمة في البلاد، وبعد درس طويل واجتماعات متتالية، رأي هؤلاء أن آباءهم عاجزون عن دفع الاقساط المدرسية التي أرهقتهم، وقرروا الإضراب في سبيل المطالب التالية: الاعفاء من الأجور المدرسية، انشاء جامعة وطنية، جعل التعليم الثانوية مجاناً. وقد زار وفد الطلاب المضربين، وزير التربية، الأمير رئيف أبي اللمع، وأطلعه على مطالبهم، وقال له إن مبالغ كبيرة في موازنة الدولة تنفق في امور يمكن الاستغناء عنها، وفي وسع الحكومة توفير المبلغ الذي نطلبه من مأدبة او ما يشبه ذلك من الأمور التي تنفق فيها الاموال التي "تُجنى من آبائنا ومواطنينا".

تقول "المصور": يبدو أن الأمير كان مضطرباً، فلم يعالج الأمر بما عرف عنه من مرونة وحكمة، بل حمل على ما تشهده البلاد من إقبال شديد على دراسة الطب، والمحاماة والهندسة وغير ذلك، وقال للطلاب المُضربين: "إذا كنتم لا تستطيعون تأمين نفقات الدراسة فابحثوا عن أعمال تمارسونها". وعندما قال الطلاب إن رب عائلة مؤلفة من ستة اشخاص او سبعة اشخاص لا تستطيع تعليم أولادها، أجابهم أنه ليس بالضرورة أن يكثر آباؤكم من إنجاب الأولاد. غير أنه ما لبث أن أرسل إلى لجنة الإضراب، في اليوم التالي، رفيقه، ليعتذر بلباقة مما قاله. وبعدما استنفد الطلاب جميع الوسائل التي اعتقدوا أنها توصل الى حقوقهم، لجأوا الى المظاهرات، وكانت مظاهراتهم فريدة من نوعها، فقد يجلسون مرة في الشارع العام، يعرقلون حركة المرور، وقد يسيرون في الساحات العامة وهم يهزجون وينشدون، وقد يرقصون أحياناً رقصة الكونغا... واليوم كأن الزمن يتكرر...

(*) ثمة خبرية معبّرة عن رئيف أبي اللمع، تظهر جانباً من الفارق بين الأمس واليوم، ويرويها النائب الراحل عبد الله المشنوق في مذكراته، فيقول: "زارني يوماً الدكتور رئيف أبي اللمع، وهو طبيب مختبر مرموق، وكان قبلها وزيراً للتربية فقال:
كنت هذا الصباح هنا على مقربة منك في قصر القنطاري.
سألته: عند الشيخ بشارة
قال: نعم عند رئيس الجمهورية.
لقد تعودت ان أتردد عليه من وقت لآخر لكن اليوم حاولت ان أبق البحصة.
قلت: وهل فعلت.
قال: وليتني لم افعل.
تعرف يا عبد الله انني بقيت وزيراً لمدة عشرين شهراً، كان مختبري خلالها معطلاً والمصلحة التي لا يلاحقها صاحبها بنفسه تتعرض لنكسة، إذ اكتشفت بعد مراجعة أوراقي أنني في عجز مالي وإنني حتى أقف على قدميّ أحتاج الى وظيفة في الدولة كمتعاقد. ذهبت الى الشيخ بشارة لأشرح له أوضاعي وقد انتظرت منه أن يدرك ما أعانيه، ويثني عليّ كإنسان نزاهته حياته، فإذا بي أسمعه يقول لي: غريب أمرك يا رئيف، بقيت في الحكم عشرين شهراً ولم تعرف كيف تدبر حالك؟
قلت: معليش يا امير هذه ضريبة النزاهة في لبنان
فأجاب: أنا أكلت بهدلة لأني كنت شريفاً"... وإذا كان "الشريف" يتكلم مع أصحاب المطالب بما تكلم به، فكيف بالشبيح؟!...
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024