أرمينيا وسط حروب العالم الإسلامي

محمود الزيباوي

الجمعة 2020/10/09
في المرتفعات المحيطة بجبال أرارات، تأسست في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد مملكة أرمينيا بين إمبراطورية الروم وأمبراطورية الفرس، ونمت حتى نهاية القرن الرابع الميلادي، حيث اقتسمت بين الإمبراطوريتين الكبيرتين. أحكم الفرس سيطرتهم على أربعة أخماس مساحة مملكة أرمينيا، وأسقطوا عرشها بعد بضعة عقود. في المقابل، سيطر الروم على الجزء الغربي من هذه المملكة الغابرة، وجعلوا منه ولاية من ولاياتهم العديدة. 
 
رغم مرور القرون الطويلة، بقيت مملكة أرمينيا حية في ذاكرة شعبها، وباتت تمثل "أرمينيا الكبرى"، وهي في هذه الذاكرة أول مملكة اعتنقت المسيحية. بحسب الرواية المتداولة، حمل اثنان من رسل المسيح البشارة إلى أرمينيا، وهما تداوس وبرثلماوس، ولقبهما المنوّران الأولان، وأسّسا كنيسة أرمينيا الرسولية. عظم شأن هذه الكنيسة في عهد غيرغوريوس المنوّر، الأب الروحي لأرمينيا المسيحية، وهو القديس الذي شفى الملك درتاد الثاث على يده، فآمن بالمسيح، وفرض المسيحية ديناً وحيداً في مملكته، وذلك في مطلع القرن الرابع، قبل أن يتبنى الإمبراطور ثيودوسيوس الأول المسيحية في العام 380، ويجعل منها ديناً وحيداً للأمبراطورية في العام 392.  

وفقاً لهذه الرواية التي بقيت راسخة، كانت أرمينيا أول مملكة مسيحية عرفها التاريخ، وفي عاصمتها القديمة فاغارشاباد، بنى غريغوريوس المنور أول كاتدرائية باسم إشميادزين، أي موقع "نزول ابن الله الوحيد"، وتحوّل هذا الموقع إلى مقر للكنيسة الأرمنية، وأضحى غريغوريوس المنور الكاثوليكوس الأول لأرمينيا، أي أسقفها الأعلى. سار حفيد غريغوريوس المنور على خطى جده، وحمل اسمه، وكان أول أسقف لإقليم آرتساخ، وفي منطقة مارطوني، جنوب آرتساخ، أسّست أول مدرسة أرمنية في دير آماراس الذي تعرّض مرارا للدمار إلى ان أعيد تشييده في القرن التاسع عشر.

إثر نهاية المملكة الأرمينية في 387، ضمّت مناطق ما وراء القوقاز إلى بلاد فارس، وفي هذه المناطق، شكلت السلطة الحاكمة مرزبانية، أي ولاية، ضمت مقاطعة آرتساخ ومقاطعة اوتيك المجاورة لها، وفي هذه المرزبانية الفارسية، ظلت الهوية الأرمينية حية كما نشهد الكتابات التاريخية والمواقع الأثرية العديدة. في القرن السابع، دخلت هذه البلاد في طور جديد مع امتداد الفتوحات العربية الإسلامية إلى أراضيها إثر سقوط إمبراطورية الفرس. أنشأ الأمويون ولاية أرمينية امتدت من القوقاز إلى جبال طوروس، وكانت أرمينيا التاريخية قلب هذه الولاية التي عانت لاحقاً من الصراع المحتدم بين العباسيين والروم، ولم تنعم بالاستقرار إلا في ما ندر. مع بداية تصدّع الخلافة العباسية، نشأت في آرتساخ إمارة حظيت بما يُشبه الإدارة الذاتية عُرفت باسم إمارة خاتشين، أي الصليب. وشواهد هذه الإمارة عديدة، وتجسّد استمرارية الوجود الأرميني وازدهاره في هذا المنطقة خلال هذه الحقبة من التاريخ.

في القرن الحادي عشر، قام طغرل بك بتوطيد أركان الدولة السلجوقية وبسط سيطرة دولته على مجمل أراضي إيران والعراق وأرمينيا وآسيا الصغرى. خضعت إمارة خاتشين لهذه السلطة الجديدة، وعانت من احتدام معارك السلاجقة في هذه البلاد، وشهدت دخول العنصر التركماني وتحوّله بشكل سريع إلى مكون أساسي من مكونات العالم القوقازي. في خضم هذه التحولات، تحوّلت إمارة خاتشين إلى جزء من أرمينيا الشمالية الشرقية التي ازدهرت تحت قيادة سلالة زاكاريان. كانت أرمينيا "ناحية بين آذربيجان والروم، ذات مدن وقلاع وقرى كثيرة، أكثر أهلها نصارى، بها عجائب كثيرة"، بحسب وصف القزويني في "آثار البلاد وأخبار العباد". عاشت آرتساخ في ذلك الزمان نهضة كبيرة، وشُيّدت في أراضيها أديرة وكنائس تُعتبر من أهم شواهد فنون العمارة الأرمينية، وهذه الشواهد ما زالت ماثلة اليوم، وتجذب اهل العامة بقدر ما تجذب أهل الاختصاص، وأهمها دير كانتساسار ودير داديفانك اللتان تختزلان بزينتهما جمالية الفن القوقازي بحلله الأرمينية. من هذه المواقع التي صنعت مجد آرتساخ في القرون الوسطى، خرجت كذلك مجموعة كبيرة من المخطوطات، وضمت هذه المخطوطات منمنمات بديعة تميّزت بأسلوبها المحلّي. 

من المفارقات المثيرة، شيّدت هذه المجمعات المعمارية البديعة في زمن دخول جحافل المغول والفرنجة، حيث غرق العالم الإسلامي في حروبه الداخلية، وغرقت الإمارات الأرمينية في هذه الرمال المتحركة. في كيليكيا، خارج حدود أرمينيا الكبرى، نشأت مملكة "أرمينيا الصغرى"، واستقر مقر الكنيسة الأرمينية في مدينة سيس، عاصمة مملكة كيليكيا. لعبت آرتساخ دول الوسيط بين المغول ومملكة كيليكيا، وساهمت في رسم الحركة السياسية التي رسم مصير البلاد الأرمينية المتعددة الأقطاب. وبرز من قادتها الأمير الأرمني حسن جلال دولا الذي وقع معاهدة مع المغول وساهم بذلك في إنقاذ آرتساخ من الخراب. 

بين القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، دخلت الأراضي الأرمينية في مرحلة أخرى من مراحل تاريخها الطويل. تكررت الغزوات التركمانية، وحملت آرتساخ اسماً جديداً، وأضحت كاراباغ، وعانت، كما في عهدها الأول، من الصراع المتواصل بين الروم العثمانيين والفرس الصفويين. في الربع الأول من القرن الثامن عشر، تشكلت في هذا الإقليم وحدة إدارية عُرفت باسم الممالك الخمس، وهي في الواقع خمس مناطق تكوّن هذا الإقليم، وشكلت هذه الوحدة الإدارية أساسا لوحدة لاحقة حملت اسم خانية فارس كاراباغ. في كانتساسار، دعت آرتساخ روسيا القيصرية إلى مساندتها للتحرر من النيرين العثماني والفارسي، وارتضت في نهاية الأمر بقبول الحكم القيصري في مطلع القرن التاسع عشر، وعُرفت باسم ناغورني كاراباغ، أي أعالي كاراباغ. وفي 1826، عاد عباس ميرزا، وكان وليا للعهد على أذربيجان، وهاجم آرتساخ، ودخل في حرب مع القوى الروسية التي هزمته، وإثر هذه الهزيمة انضمت بقية أراضي أرمينيا الشرقية إلى روسيا القيصرية. هكذا تشكلت المقاطعة الأرمينية ضمن روسيا القيصرية، وجرى تقسيمها إداريا إلى أربع مناطق اعتمدت أنظمة الحكم الروسي.

في الوجهة المقابل، عاشت أرمينيا الغربية في كنف الإمبراطورية العثمانية، وتعرض أبناؤها للاضطهاد في زمن تتضعضع هذه الإمبراطورية وانهيارها، وبلغت هذه الحملات ذروتها بين 1894 و1896 في ظل حكم السلطان عبد الحميد الثاني. في تلك الحقبة، تأسست "جمعية الاتحاد العثماني" وضمت اتحاد "تركيا الفتاة" المؤيد لإصلاح الإدارة في الإمبراطورية، ثم تحولت إلى جمعية "الاتحاد والترقي"، ووصلت هذه الجمعية إلى سدة الحكم في مطلع القرن العشرين. تجددت حملات اضطهاد الأرمن، وأدت إلى سلسلة من الهجرات العرضية. تواصلت هذه الهجرات في حقبة بناء الدولة التركية، وأدت إلى ترحيل كثيف للأرمن. عقب حملة "الإبادة الجماعية" في العام 1915، تمّ تهجير الناجين من الحملات التركية، وأُخليت آسيا الصغري من سكانها الأرمن. 

سعى الأرمن القاطنون في أرمينيا الشرقية إلى إقامة دولة لهم، وأعلنوا ولادة الجمهورية الأرمينية في 28 آيار 1918. شنت تركيا الحرب على هذه الجمهورية في خريف 1920 واحتلت مقاطعتي كارس وأرداهان اللتين كانت روسيا القيصرية قد سلختهما من العثمانيين، كما احتلت مقاطعة سورمالو التي تضم جبل آرارات. أمام هذا التقدم التركي، انضوت الجمهورية الأرمينية إلى كنف الاتحاد السوفياتي، وباتت "جمهورية أرمينيا السوفياتية الاشتراكية" التي سرعان ما حظيت بدعم الجيش الأحمر. قامت هذه الجمهورية على جزء صغير من "أرمينيا التاريخية"، وبذا أمكن إنقاذ ما تبقى من الأراضي التي كانت تبلغ 300 ألف كلم مربع في ومن مملكة أرمينيا التاريخية.  

بقيت ناغورني كاراباغ خارج حدود هذه الجمهورية، وألحقت رسميا بأذربيجان في 1923، ومع انهيار السلطة السوفياتية، عادت لتنادي بالانضمام إلى أرمينيا التي نالت استقلالها في 1991، واستعادت اسمها التاريخي الأول، فأصبحت جمهورية آرتساخ، ودخلت في صراع مع الأذريين، وما زال هذا الصراع مشتعلا في زمننا.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024