رعشات الوطنية المصرية في رحلة المومياوات الملكية

ناصر كامل

الأحد 2021/04/04
 
استعادت قلة من المصريين، مساء أمس، جملة ابن خلدون: "الناس في السكينة سواء فإن جاءت المحن تباينوا" لتخليص الطيف هائل الاتساع من ردود الأفعال المتناقضة تجاه حدث مصري طمح منظموه بأن يغدو عالمياً. هكذا نظرت؛ هذه القلة، للحدث باعتباره "محنة، فتنة"، أو باعتباره مظهر جديد لـ"محنة، فتنة، أزمة" جاوزت السنوات العشر، لكن الليلة الماضية كانت شديد الكثافة.

نظرة سريعة لبعض ردود الأفعال تكسب تلك الاستعادة "الخلدونية" بعض الوجاهة. وتدقيق سريع لبعض تفاصيل الحدث تزيد من صدقية الاستعارة؛ فهناك في الواقع أربعة أحداث وليس واحداً: اثنان وعشرون مومياء لملوك وملكات من مصر القديمة، يتم نقلهم من المتحف المصري في ميدان التحرير إلى متحف الحضارة المصرية في الفسطاط، حيث أقيم حفل فني، يبث بالتوازي معهما مقاطع مصورة لمؤدين من مواقع أثرية مختلفة بالإضافة لفيلم تسجيلي قصير، وأخيراً هناك حضور للرئيس عبد الفتاح السيسي وعدد محدود من المسؤولين والضيوف الأجانب. الموازنة بين العناصر الأربعة يكاد يكون مستحيلاً في ظل افتقاد السكينة، والواقع أنه سيكون بلا شك غافلاً من يتصور وجود رغبة  في  الموازنة. 

طغى حضور السيسي على كل شيء آخر، وبدا غياب "الجمهور، الشعب، السكان، المواطنين" صارخاً، حتى بدت عاصمة العشرين مليون مهجورة، غياب صارخ لا يصلح أي تبرير لعلاجه، لا الجائحة، ولا التدابير الأمنية، ولا أي تخريج آخر.

طغيان حضور الرئيس قص من المسار معظمه، شوهدت المركبات والموكب المبهر في لحظة الخروج والدوران حول الميدان، ثم تلاشت، كأن يداً خرافية القدرة قد أخفتها، ثم أظهرتها وهي تدخل إلى مستقرها الحالي. لا يمكن معالجة الأمر في ما بعد، فالحدث صيغ على بؤرة واحدة مفردة.
في أقصى طرف طيف ردود الأفعال هناك سؤال "الهوية"، وهو سؤال تتعدد صياغاته، بداية من علاقة مصري القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد بأسلافه من القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد، سؤال باتساع هذه الفترة الزمنية المتطاولة كان طازجا، أمس، في صياغة: هل تسري على  المومياوات أحكام دفن الميت الإسلامية الصارمة.

في الطرف الأقصى المقابل برز خطاب "هوياتي" مضاد، بيان سياسي صريح: من لم يصدح بآهات الإعجاب، ويبدي رعشات النشوة بصورة ظاهرة سيحكم على نفسه بأن يُعامل معاملة  الهكسوس الغزاة. في قلب هذا الطرف عواصف من دعاوى التخوين لكل من تسول له نفسه مقاربة "ملكة الحكم" وإن بلطف.

استفسار بسيط من نوعية: لماذا تطلق طلقات المدفع في استقبال المومياوات، هل هم ضيوف أجانب، وافدون، مستجدون في السلك الملكي؟ يقابل بلعنات طرد من خيمة الوطنية الحامية.
من يقارب الملكّة المحرم استخدامها في مثل هذه اللحظات سيحشر نفسه في ركن قصي يبحث شاغلوه عن توصيفات صادمة، من نوعية أورغازم الوطنية الكاسح، أو افتقاد الدوبامين.

قاربت بعض التفاعلات مع الحدث بعناصره الأربعة حال الأورغازم بمعناه الواقعي "الوصول لنقطة النشوة خلال ممارسة الجنس، لدى الرجل والمرأة على السواء"، وافتقاد الدوبامين الذي يُعرّف بأنه  «هرمون السعادة»؛ تبدى في آلاف التعليقات من نوعية: يا ريت مصر تظل هكذا دائما!.
القلة التى افترضت أن مصر كانت في "سكينة" عصر أمس ثم دخلت، مع حلول العشاء، في "محنة المومياوات" لن تتمكن من التملص من النظر إلى جهود آلاف المشاركين في الحدث ممن لا يقبل العقل قذفهم إلى قبضة التوازن المختل بين عناصر الحدث، وكل ما عليهم فعله أن "يعزلوا" حضور السيسي الطاغي، وتجاهل سيطرة رهاب الجماهير "جماهيرفوبيا" على مجمل إجراءات الحدث، عندها يمكن البحث في العناصر الفنية بهدوء، خيارات الأزياء وأدوات الزينة، وتوزيع الضوء، والموسيقى والغناء، والتصوير، والإخراج، أي تجاهل كل ما ينزع من الحدث طابعه كـ "حدث"، يراد له أن يُجيش خارج أحكام الذائقة والمفاضلات العقلانية.

دخل السيسي وخرج من الحدث بمفرده، فلتخرجه تلك القلة من الحدث، وتعزل تأثيره، وإن لم تتمكن من ذلك على مستوى التخيل فلتدخله إلى فرضيات متخيلة، تستدعي مثلا مصير الخديوي إسماعيل عقب حفله الأسطوري في افتتاح قناة السويس (1869)، ووقائع السنوات العشر وصولا إلى عزله من حكم مصر، أو تتذكر مثلا، وتفترض أن "أورغازم" الأمس قريب من سلفه الذي شعر به البعض مع افتتاح الرئيس الأسبق حسني مبارك لمكتبة الاسكندرية (2002)، ولنتذكر أنه في  تلك السنة وُضع حجر الأساس لمتحف الحضارة المصرية، ضمن سياقات دعائية فجة عن العودة إلى ركب الحضارة وريادة الثقافة العالمية.
السيسي في منطقة وسط بين إسماعيل ومبارك، فهو لا يملك نزق وشهوة الأول ولا محدودية طموح الثاني، إسماعيل قفز بقوة خارجية طاغية، ومبارك تكاسل حد الجمود. جلب إسماعيل  فيردي وأوبراه "عايدة" ونسخ مبارك "أنشودة الفرح" لبتهوفن، وبينهما يتماهي السيسي مع صوته الداخلي في وحدته القاسية داخل طرقات ضيقة ومدخل لا يجد فيه من يحمل له كمامته.
رحلة المومياوت الملكية أمس هي الخامسة بحسب السجلات الأثرية، استعادة بعض تفاصيل الرحلات الأربع السابقة قد يدفع مقولة ابن خلدون لعمق بالغ الغور؛ ما يجعل تقدير عمر المحن غير دقيق بالمطلق. 

في الرحلة الأولى من الدير البحري، في الأقصر، إلى القاهرة، خرجت النساء واصطففن على جانبي نهر النيل يبكين في حزن شديد، وأطلق الرجال الأعيرة النارية؛ كما يفعلون في الجنازات. حميمية الوداع؛ بعيدا عن دوافعه، شائقة، إنسانية، فيها اتساق مفهوم.  
في القاهرة تنقلت المومياوات بين أربعة أماكن، اندثر وتهدم بعضها، لكن رحلتها إلى ضريح سعد والعودة منه إلى متحف التحرير ذات دلالة متصلة بتوالد المحن إحداها من الآخرى، وكلها تدور حول توظيف الآثار في معارك السياسة والدين والثروة.

في سنة 1927، وعقب وفاة سعد زغلول (زعيم الأمة)، وعلى الرغم من معارضة الملك فؤاد والسفارة البريطانية، قررت الحكومة إقامة ضريح له يُبنى بجوار بيته، وكان قد دُفن بمقابر الإمام الشافعي مؤقتًا الى حين إتمام الضريح الذي اكتمل تشييده في عهد وزارة إسماعيل صدقي (1931) الذي عارض جعل الضريح الضخم لشخص واحد، واقترح تحويل الضريح إلى مقبرة كبرى. وهكذا ذهبت المومياوات لتدفن- بحسب أحكام دفن الميت الإسلامية- لكن مصطفى النحاس وحزب الأغلبية "الوفد"، رفضوا مشاركة "الفراعين" زعيم الأمة ضريحه، فبقيت تنتظر حسم الصراع السياسي، حتى عاد الوفد للحكم (1936) وصدر قانون يقضي "بنقل رفات المغفور له سعد باشا زغلول إلى ضريح سعد"، على أن يكون "مخصصًا على وجه الدوام لدفن المغفور له وزوجه من بعده دون غيرهما"، وهكذا عاد "الفراعين" إلى المتحف المصري.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024