ريم الجندي: لضحايا سوريا "القيامة" الآن

رشا الأطرش

الثلاثاء 2015/06/02

غداً سنراهم. بالأحرى، سنرى وجوههم ونظراتهم، كما هي، لا كما الخاتمة التي وضعها السجّان. وهُم، جنباً إلى جنب، سيعودون غداً، إلى سابق عهد الحياة، من دواخل أكفانهم. الأكفان التي بدت، في صورهم الفوتوغرافية والفيديوهات المتناقَلة قبل سنوات قليلة، أقرب إلى ملاءات الأسِرّة البيتية المزركشة بزهور ذات ألوان خافتة. وانتقلت الزركشات البسيطة، مع الوجوه، حيّةً، إلى لوحات الفنانة ريم الجندي، التي كلّلت رؤوسهم أيضاً بـ"موتيفات" لُطْفٍ مُذهَّب: زهر الكرز أو نجوم، شمسٌ أو ورق شجر.

في معرضها المُعنوَن "القيامة"، والذي يفتتح في غاليري جانين ربيز غداً الأربعاء، سنرى البورتريهات التي رسمتها ريم الجندي لرجال ونساء وأطفال، اعتقلوا خلال التظاهرات السلمية في سوريا وأعيدوا إلى عائلاتهم جثثاً غالباً ما تظهر فيها آثار التعذيب. هي الصور التي قررت ريم، آنذاك، رؤيتها، رغم أنها لطالما رفضت مُشاهدة الموت. وتخبر أنها، منذ ذلك الحين، تُغالب تلك اللقطات والفيديوهات، وتكابر على ألم غزا معدتها.. حتى قرَّرَت: سترسمهم، وسترسمهم أحياء، لتعيد الاعتبار إلى أجسادهم وإنسانيتهم..

"في العادة، كنت أرفض أن أرى صور القتلى"، تقول ريم لـ"المدن"، "لكني، بالنسبة إلى تلك المَشاهد الآتية من سوريا بُعَيد انطلاقة الثورة، لم أستطع إغفال صور الناس الذين كان النظام يعتقلهم في التظاهرات السلمية ليعيدهم إلى أهلهم جثثاً. جثث متفرقة، كل على حدة، نراها في صورة أو فيديو حيث تظهر ملفوفة بما تيسر من قماش يمكن توظيفه ككفن، والوجه مكشوف، والأهل ينتحبون في الوداع الأخير. ثم، إثر استخدام السلاح الكيماوي، صرنا نرى جثثهم جماعات، عائلات، مرصوصة جنباً إلى جنب".

تستعيد ريم الإشكالية الإعلامية/الأخلاقية المعروفة: فمن ناحية، هذه صُور حقيقية، ربما يجب أن تُرى ليعرف العالم بما يحصل. لكنها، من ناحية ثانية، إهانة للميت، انتهاك لحرمته، وكم هو مخيف أن يبتذل الإعلام المأساة إلى درجة أن تعتاد العين كل هذه الفظائع.. لكن، في الفن، الطريق ليس مسدوداً، وثمة ما يمكن فعله لصدّ الاعتياد هذا،  بل ربما لقَلْبه: "أردتُ إزالة جروحهم وآثار التعذيب"، تقول ريم، "هم الضحايا، والضحية دوماً أجمل من الجلاد، لا باعتبارها مبعثاً للشفقة أو الرعب".. بل بما بذَلت وخسرت، أي حياتها. لذلك، اختارت ريم الاستعانة بالأسلبة الفنية للأيقونات الشرقية، وهي اختصاصها الأساس. فالأيقونات تُصنع لوجوه حية، إذ لا يموت القديسون ولا يفنون، وهؤلاء الضحايا لا تريدهم ريم أن يظلوا أمواتاً: "شعرتُ أن تلك الوجوه ستولّف علاقة خاصة بالقماش والخشب، عناصر الرعب في الصور الأصلية، ستكون عناصر تأليف وعَيش في اللوحات. فالفن لا يجب أن يقلّد الحياة، لأنه مهما فعل، سيبدو أضعف منها، سيبدو نسخة ركيكة منها. الفن يجب أن يقول شيئاً آخر، هو مصفاة شخصية، وجهة نظر". هكذا، طبعت ريم الصُور الأصلية. لقطات مثبّتة ومشوّشة من فيديوهات، وأخرى بكاميرات الهواتف المحمولة، لتمضي برفقتها نهارات وليالي، ترسم، رغم الوجع الذي سبّبه لها ذلك: "قد يكون هذا المشروع من أكثر المشاريع التي أنهكتني نفسياً وجسمانياً.. في بعض الأحيان، كنت أرسم شهرين أو ثلاثة، وأتوقف أربعة شهور أو خمسة. كنت أتعب. لعلّه المعرض الوحيد الذي شعرت بأني معنيّة به جسدياً إضافة إلى معرض "أوقات زيارة بينيلوب" (العام 2000)".. أي عندما اشتغلت ريم على تيمة المرض الذي ظلّل مرحلة من حياتها ووضعها على حافة النهاية، قبل أن تستعيد حياتها بإصرار وحساسية يعرفهما عنها كل من رافقها في تلك الفترة.
تضيف: "أردتُ بمشروع "القيامة" أن أدافع عن نفسي ضد الاعتياد، أن أثبت أني، برسم الضحايا هكذا، أحياء، وباحترام حيواتهم المسفوكة، ما زلتُ بشرية، وما زلتُ لا أتقبّل موتهم هذا، وبالطريقة هذه، مهما عُمِّمت الصُور. وفي الوقت نفسه، نفَّستُ عن إحساسي بالذنب، لأني، بموازاة ما عانوه، كنت أعيش حياتي".

لكن.. وبالحديث عن الأيقونة، والضحية وجمالها.. هل يمكن  أن تُواجه ريم فخ "أيقنة الضحية"، بمعنى تقديسها المضمر؟ أليس هذا، في الفن والسياسة، ما قد يحول دون تفكير نقدي من داخل الثورة السورية، في الثورة والثوار ومآلات ما بات يسمّى أزمة أو حرباً في سوريا..
"لا، أبداً!"، تجيب ريم، "أنا أفصل السياسة عن الفن، لطالما استلهمتُ فنّي مما حولي، من حياتي وناسي، والبلد والشارع، لكني لا أصوغ خطاباً سياسياً.. أكره مثلاً كلمة شهداء، فهؤلاء ضحايا ومتروكون، وهذه مأساة كافية.. لا جواب عندي ولا حلّ ولا خلاص، كل ما في الأمر أني كنت أصاب بوجع في المعدة كلما رأيت تلك الصور والفيديوهات، كان الشعور بالذنب وتأنيب الضمير يتآكلني لمجرد أنهم في الصورة وأنا خارجها، حالة شخصية جداً، ثم قلت لنفسي أخيراً: إن كنت لا أستطيع تجاوزهم، فلأعمل معهم.. ما الذي سيحدث؟ سأعمل معهم".

في مشروع "القيامة"، استخدمت ريم الجندي من أسلبة الأيقونات، ألوانها، إضافة إلى بعض الملامح، كالعيون المفتوحة على اتساعها، وربما بعض التفاصيل في الأنوف. لكنها مزجت ذلك بشُغل البورتريه في ما يخص النور والظل. وفي صفّ اللوحات التي ستستقر غداً على جدران الغاليري، سيبدو للناظر أنها عملت على "نموذج" أو prototype متكرر في كل اللوحات: البورتريهات معلّقة جنباً إلى جنب، والوجوه متكافئة المقاسات، بأحجامها البشرية الطبيعية.. أشخاص، لكن كل واحد(ة) منهم شخص.. جماعة، لكنهم أيضاً أفراد.

تتحدث ريم عن تأثّر تيمتها بسلسلة "وجوه الفيوم"، أي اللوحات التي اكتُشفت مرسومة على توابيت مومياءات مصرية في الفيوم منذ القرن الأول قبل الميلاد واستمرت قرنين أو أكثر بعد الميلاد، وهي تُظهر وجوه الموتى بأشكالها ومقاساتها الطبيعية: "وجوه الفيوم هي فترة رسم الموتى أحياء، لتعرف الروحُ الجسدَ الذي ستعود إليه يوم البعث. لا يُرسم الموتى أحياء فحسب، بل يُرسمون في أبهى حالاتهم احتفاءً بتلك الحياة التي ستعود إلى أجسادهم، ولن تضيع".

في أعمالها السابقة، ذهبت ريم الجندي في أسلبة الأيقونات إلى الحدّ الأقصى، ووجدت طريقتها الخاصة من ضمن هذه الأسلبة. يفترض بلون الوجه في الأيقونة، أن يتدرّج من البني المحروق إلى الأبيض، الضوء يأتي من داخل الوجه ليتدفق خارجاً منه، والأيقونة ثنائية البُعد، ولا ضوء ينسكب على الوجه ليرسم ظلالاً أو يعطي حَجماً volume، لأن الأيقونات بلا زمان. كما أن الخلفية يُلغى منها المنظور perspective، فتمسي خلفية "لا واقعية"، لأن الأيقونة بلا مكان. أما من يعرف الأعمال السابقة لريم الجندي، فلا بدّ لاحظ أن الضوء يمرّ أبيض مفاجئاً في البني المحروق لوجوه لوحاتها وأجسادها. وهي تقول إنها تحب تحفيز العين بالتضادّ، تراه نظرية جمالية مُجسَّدة في بيت تستشهد به من "القصيدة اليتيمة": "الوجه مثل الصبح مبيضٌّ/ والشَّعرُ مثل الليل مسودُّ/ ضدّان لمّا استُجمِعا حَسُنا/ والضدُّ يُظهر حُسنَهُ الضدُّ". أما في مشروع "القيامة"، فثمة تجديد خفِر، ذلك أن وجوه ريم الجندي مضاءة من داخلها وخارجها، تشبه الأقونات، خلفيتها ثنائية البُعد، لكن لها حجماً كما يفترض بالبورتريه البشري أن يكون.

"في البداية، ترددتُ في البوح بهوية مَن أرسمهم لـ"القيامة".. إلى هذه الدرجة خشيت استدرار الشفقة، فأنا أرفض تلك الميلودراما تماماً"، تقول ريم، "لكني قررت أخيراً أن أقول وأشرح، كي أحمي الفكرة وأحميهم.. وفي داخلي ما ينبئني بأن شيئاً جيداً سيحصل في النهاية، لا بدّ، ولو بعد مئة سنة. لا مفرّ من اكتمال دورة الحياة بعد الحجر الذي رُمي في المستنقع السوري". لذلك، وبعد تفكير، كما تخبرنا، أضافت ريم أعمالاً ثلاثة أخيرة على المجموعة، لوحات كبيرة كسرت المقاسات المنمذجة والمتساوية للسلسلة الكاملة: واحدة بمشهد الزواج، وثانية لامرأة حامل، وثالثة لأب يلعب مع ابنه... لأن "العائلة ستعود، الحياة ستعود".



(*)  المعرض في غاليري جانين ربيز (الروشة - بيروت)، حتى 25 حزيران/يونيو الجاري، من الثلاثاء إلى الجمعة، بين العاشرة صباحاً والسابعة مساءً.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024