"أنا في هيروشيما"

شادي لويس

الجمعة 2019/12/06
تعجب صديقي من ردّي على سؤاله، فأعدت النظر في نص محادثتنا في شاشة الهاتف: "أنا في هيروشيما"، ووجدتها جملة غريبة كما يقول. لماذا يريد أحد أن يكون هنا؟ ولماذا يصل مئات الألوف من السياح، غالبيتهم من الأميركيين، إلى بلدة القلعة القديمة التي مسحها "الولد الصغير" عن وجه الأرض؟ "الولد الصغير" هذا، كان الاسم الذي أطلقه الأميركيون على القنبلة التي ألقوها هناك.

أردتُ في البداية أن أزور ناغازاكي أيضاً، إذ علق الإسمان في ذاكرتي منذ الصبا، وأردت أن أكون هناك في يوم الأيام. رغبة بسيطة وسذاجة لأن يكون المرء، بطريقة ما، جزءاً من التاريخ أو قريباً منه. قرأتُ في الماضي عن ذلك الرجل الذي ضربته القنبلة في هيروشيما ونجا، وبعدها ولسبب ما لا أذكره، توجه إلى ناغازاكي، وحين وصل القطار إلى محطتها، سقطت القنبلة الثانية. أطلقوا عليها "الرجل السمين"، ونجا للمرة الثانية، ولم يكن واضحاً لي إن كان يجب اعتبار حظ الرجل مفرطاً في سوئه، أو مفرطاً في حسن طالعه. ربما الإثنان معاً، ولعل ذلك ما جلب كل هؤلاء الزوار إلى هناك، كي يضعوا أنفسهم مكان الرجل، ليتذكروا بمهابة تلك القدرة الوحشية والهائلة التي يملكها البشر، فيشعرون بالامتنان على نجاتهم، وبالفزع من إدراك إنها مؤقتة وغير مضمونة. لذلك يطلق عليها البعض "السياحة السوداء"، وآخرون يطلقون عليها "سياحة الرثاء". 


ينصح كتيب الإرشاد السياحي بالاكتفاء بزيارة هيروشيما، وملحوظة صغيرة في نهاية واحدة من صفحاته تقول: ليس هناك ما يمكن مشاهدته في ناغازاكي. وكان يجب الإنصات للنصيحة، إذ تبدو حركة السياحة موحدة بشكل ما، وقياسية. يقرأ السياح التوجيهات نفسها تقريباً، ولو تغيرت مصادرها، وفي الأغلب يذهبون إلى الأماكن نفسها ويقومون بأنشطة متقاربة. بعض الكتب أيضاً يمنحك تعليمات تفصيلية عن الأماكن الواجب التقاط الصور فيها وزواياها. وقد صل السياح الأوائل إلى المدينة، بعد أيام من سقوط القنبلة واستسلام اليابان. جنود أميركيون حملوا الكاميرات بدلاً من الأسلحة، ليصوروا الأثر "الهائل والرائع" للانفجار. بعد ثلاثة أعوام، كان قد صدر أول كتيب إرشادي مكتوب للسياح العسكريين، ونصحهم بالتقاط قطع من الركام المتناثر، تلك التي احتوت شظايا من الأثاث أو العظام البشرية مصهورة وممتزجة بالصخور أو الأسمنت، بفعل الحرارة الهائلة للانفجار.   

في الحقيقة لم يكن هناك الكثير ما يمكن فعله في هيروشيما أيضاً. المدينة التي دُمّر وسطها بالكامل تقريباً، وقتل أربعون في المئة من سكانها في غضون دقائق، زُرعت على ركامها مدينة أسمنتية في غاية البلادة، ولا تحتوي ما يلفت الانتباه. أردتُ حين وصولي في المساء، أن أزور "نصب الطفولة". المَعلَم نفسه لا يبدو مبهراً في الصور، وبالكاد يمكن وصفه بالجميل، لكن القصة مؤثرة. ساداكوا ساسيكي، التي تصاب باللوكيميا _سرطان الدم) مثل الآلاف من "أطفال القنبلة"، تصدق أن من يقوم بعمل ألف قطعة من "الأوريغامي" تتحقق أمانيه، وتصنع هي العدد كاملاً، لكنها لا تُشفى كما تمنت، وتموت في النهاية. شيّد النصب بتبرعات حملة أطلقها زملاؤها في الفصل، وإلى اليوم، يرسل طلاب المدارس، من داخل اليابان وخارجها، المزيد من قطع "الأوريغامي" كل عام، لتقوم إدارة النصب بتوثيقها وحفظها. لكن لماذا تكون القصة سبباً كافياً لقطع كل تلك المسافة والنظر إلى نصب متواضع الجمال؟ فما الذي يمكن أن يراه المرء هناك؟ لم نتمكن من الدخول إلى حديقة "الذكرى" ليلتها، عرفنا أن البابا فرانسيس في زيارته إلى المدينة، وأن وسطها مغلق من قبل الشرطة، وكان علينا الانتظار حتى الصباح.
 

البابا في هيروشيما

في اليوم التالي كان يمكننا زيارة "قبة هيروشيما"، المَعلَم الأشهر في المدينة وأيقونتها البصرية المميزة. المبنى التجاري الذي صمد أمام الانفجار لسبب غامض، تكشف قبته عن هيكلها المعدني الداخلي، ويخترق الضوء الفراغات بين أوتاره. صمود لا يؤكد سوى الخراب الكامل الذي حدث. يستحق المبنى أن يكون بالفعل، ضمن لائحة اليونيسكو للتراث الإنساني، لكن اعتراضات الدول التي تضررت من الاحتلال الياباني مفهومة أيضاً. فلماذا تحظى القبة وحدها بهذا الاعتراف، دوناً عن مواقع مذابح أفدح ارتكبها اليابانيون في حق غيرهم أثناء الحرب؟  كيف يمكن وضع معيار للمعاناة، أو المقارنة بين استحقاق ضحية وغيرها؟

يقف أميركيان ويتبادلان التقاط الصور أمام القبة، أعود لكتاب الإرشاد، وأتأكد فعلاً من أن الصور التي التقطاها أُخذت من الزوايا التي ينصح بها الكتاب.

في نهاية اليوم، عرفت أن الرجل الذي نجا من القنبلتين، لم يكن وحده، كان هناك أكثر من مئة وخمسين شخصاً من "الناجين مرتين". 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024