ليلة الزفاف... عقابي الأول

لبنى الراوي

الخميس 2016/08/11
وسط حشد من المدعوين، فتح لي نور باب سيارة المرسيدس المزنّرة أبوابها بعقد من التول الأبيض الناصع، والورود الجورية المشرئبة أعناقُها على الغطاءيْن الأمامي والخلفي، ثمّ ساعدني في استنهاض ذيل فستان الزفاف عن الأرض برويّة، وأنا آخذ مكاني في المقعد الجلدي المبرّد بفعل التكييف. استوى على عرشه بقربي، ثم أومأ إلى السائق، بإشارة من سبابته، للإنطلاق وشقِّ طريقه وسط الأكف الملوِّحة بحركات وداعيةٍ، داعيةً لنا بزواج ميمونٍ مكللٍ بالرفاه والبنين.
 عجلات السيارة الأربع لم تسرْ على الطريق الصاعدة إلى أحد الاوتيلات الجبلية بسرعة خفقان قلبي، وعمق لهفتي لنور زوجي، وقوّة إيماني بأننا سنكون اول من يكتشف قارة السعادة الغامضة. 
ورغم سكونه المفاجئ، وحرصه المريب على تفادي أيّ حديث ينشأ بيننا، إلا انني لم اجد حرجاً بين الحين والآخر في مشابكة يدي بيده اليسرى بقوة، مثل طفل صغير يقبض على خيط بالون حتى تبيض قبضته  خشية أن يطير، او التحديق بعينيه، وإن بنظرة خجولة لا تُغني او تُسمن من جوع إليه. 
عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل وصلنا. بنبرة برغماتية تحدّث إلى الموظفين الذين انهالوا علينا بالابتسامات والتبريكات.. وباستياء وغضب مخفييْن تحت قشرة من خفّة الظلّ، تحاور مع موظفة الاستعلامات التي زودته بمفتاح الغرفة المعدّة لنا سلفاً.  لم ادخلها محمولة على يديه كما تحلم المراهقات، وإنما اطبق يده الخشنة على ذراعي، وسحبني بلطف أولاً، ثمّ بشدّة اكثر، ثمّ بقوّة حتى وصلنا إلى قفص سعادتنا المفترضة.
بعد ان اختلى بي اخيراً بعيداً عن الناس، وقبل اكتمال قمر ابتسامتي، نظر إليّ بعينيْن مجمّدتيْن اصابتاني اسهم حدّتهما بالفزع، ثم فتح فمه لينطق بكلمات معدودات، واضعاً يده اليمنى بحركة لاواعية في جيب بنطاله:
-" قريبك السمج اللي ما شال عينو عنّك ولا دقيقة شو جابو عالعرس؟!
- ما عزمتو... يمكن حدا من اهلي عزمو.. حتى اسألُن...اقسم بألله ما أنا!" 
 انهلتُ عليه بمبررات غمرتْ اذنيه جميعاً، لم أكن اعلم انّ الشيء الحقيقي يكفي أن يُقال مرة واحدة لنعرف انه حقيقي، ولم اسكت إلا ريثما كان يستأنف الحديث. أفلتَ ربطة عنقه ورمى بها على كرسيّ مطرّز قماشه بحركات راقصة لروميو مع جولييت. فكّ أزرار قميصه العلوية. مسح بمنديلٍ قطرات عرق تلألأت على جبينه في الضوء، ثمّ غادر الغرفة دون ان ينطق بكلمة، متعمداً اقفال الباب بالمفتاح حتى توقف لسانه عن تفوُّه الطقشات . 
***
   في بار الأوتيل طلب كأس ويسكي، استتبعه بآخر، فآخر، ثم بآخر . كان يجترع الكؤوس بلا هوادة دون أن ينكزه فضوله لتأمُّل الحاضرين، أو التنبّه إليهم.
"هلقد بتحبا!": قالت إحدى النزيلات، وهي تراقب وجهه الواجم وسحنته المكفهرة. لم يتكلف عناء رفع نظره إليها، بل ظلّ خافض الرأس يهزّ كأسه بحركة دائرية عبثية على البار كمَن يلعب بالقرص الدائر على حافة شرفة. 
" المهموم متلك يا إمّا خسران بالحب يا إما باللعب... وحدة من التنين!" : تستكمل كلامها، وتعقبه بضحكة مصطنعة لعلها تحطّ بأثرها عليه، فيوليها اهتماماً. 
ظلت تحاول وهي لا تعرف من أيٍّ من كتفيْه تُمسك به: "إنت لوحدك. بكفي شرب حتى تعرف ترجع" . 
 رفع رأسه أخيراً، وللدعابة أجابها بلغة فصيحة، موجّهاً سبابته صوب الفراغ:  "اطمئني. تعلمنا انا والخمرة ان يحترم أحدنا الثاني، وألاّ يهرق أيّ منّا الآخر أبداً على الأرض". صمتَ هنيهة، ثمّ فجّر إحدى حماقاته ملحَّنةً: " تعي نطلع سوا"... 
***
أغمضتُ عينيّ تحت دفق الماء المنهمر في حوض الاستحمام. الماءُ بعثٌ للروح بعد جفافها. خنقتُ غصّاتي. لم أبكِ . فلا فائدة للدموع تحت المطر. لبستُ قميصاً قصيراً للنوم، ذا قماشة حريرية مطرّزة بخيطان منسجمة بيضاء وبنفسجية، تركتُ شعري الطويل منسدلاً يداعب كتفيَّ، لوّنت شفاهي بأحمر شفاه دفعني إلى هستيريا من الضحك، إذ بدا أسود بفعل انعكاس الستائر الحمراء على الداخل وانفلاش الضوء الأحمر على الأشياء. فهمتُ بالمصادفة والتجربة مقصد الذين يصفون ليلة الزفاف بالليلة الحمراء. أما قارورة العطر فلم تسلم من عبثي. 
خلال انتظاري المضني، كنت اتعامل مع افكاري كما يفعل الإسكافيّ مع الاحذية، اقلّبها يمنة ويسرة محاولةً اصلاحها، بالأحرى افكّر بغيرته الماكرة التي لا تختلف عن الحب المطابق للعبادة في قُصر النظر للدرجة نفسها. ثمّ انطرحتُ على السرير كدمية أنتظر عودته بفائق الشوق واللهفة.
***
 على طرف سريرها في الغرفة المجاورة لغرفتنا. جلس نور دون ان يخلع نعليْه. ظلّ يرمق صورتي في هاتفه  نظرةً تصلُ إلى أقصى غاية البعد. وعلى الرغم من احتفاظ شَعره برونقه ولمعانه لمدة طويلة، إلا ان الإنهاك قد بدا جلياً على ملامحه مع ساعات الصباح الاولى.
-" قديش عمرا؟: قالت صاحبتُه بتهكّم .
- 17: يُجيب
- وليش تركتا بليلة العرس؟ 
- بدي ربِّيا" 
لم تنل ردة فعله استحساناً في اذنيّ صاحبته. تمتمتْ كلماتٍ بصوت خفيض يشبه التعويذة، وازدردتْ ريقها قبل أن ترفع نبرتها بغير حسبان: "جيت على غرفتي حتى تشرُدْ بملكوت ربَّك!"، ثمّ همَّتْ بالابتعاد من امامه، إلاّ أنّ شفتيْه قد سبقتاها إلى شفتيْها، وتبادلا قبلة اولى خاطفة تبعتْها أخرى ملحّة. فكانت طريقتهما في إنهاء يوم الآخرين وبدء ليلتهما....
***
  كلّما اكمل عقرب الساعة دورته الروتينية طال الانتظار، وازدادت معه ضربات قلبي، حتى لقد تظنّ أن ثمة صبيّ في صدري يرمي الحجارة على الحائط، فكيف السبيل للإطمئنان على نور وقد سدّ كل المنافذ؟! الباب مقفل، ولا املك هاتفاً جوّالاً . فكرتُ في محادثة الاستعلامات. لكن ماذا أقول: اين عريسي؟ هل رأيتم عريسي؟!
وفي حين كنت أتشقّقُ بين تأثري له وانشغالي عليه واستيائي منه، كان نور يعتلي شريكته في المضجع، وقد قضى وطره فيها بتعجّل، من دون كلمة واحدة، بملابسه كاملة إلا سرواله الذي لم يخلعه تماماً، وإنّما سُحبَ إلى الكاحليْن وكأنّ ضميره يخبره بأنّي أنظر إليه. عندما انتهى من ارتجاجه المحموم، تدحرج من فوقها، ورحنا ثلاثتنا في النوم بعد دقائق. كلّ منّا في عالمه غرفته ومضجعه. 
***
أشرقت الشمس. توسطتْ كبد السماء وكأنّ شيئاً لم يكن. كلُّ كائن كان يجري لمستقره كما العادة. الخيانة لا تعدّل شيئاً في نصّ الحياة. هي نجَسٌ لصاحبها فقط .
فتح الباب بحذر بينما كنتُ غارقةً في النوم. جلس مني غير بعيد على الفراش. مرَّر اصبعه على رقبتي، على جلد مرفقيّ الغضّ وأردافي، وطيّات أذني وحاجبيّ... كان سعيداً بملمس وملامسة جلدي . 
 وما ان أيقظَتْني من غفوتي لمساتُه المكوكية، حتى انقضضْتُ عليه كهرّة وجدتْ صغيرها أخيراً. عانقته بحرارة. مرّغتُ رأسي بين ضلوعه وكأنّ العناق وحده لا يكفي.
"ما كنت عارف إنِّك هلقد حلوة إنتِ ونايمة" غازلني ووجهه ينضح بإيحاءات مشبعة بالندم. كان يتوقّع أن سيجد امرأةً متعجرفة تحاسبه على فعلته، ترمي خاتم الارتباط في وجهه، تقلب الطاولة عليهما، تحطم الزجاج بزهرية، وتمزّق ملابسه.. فوجد فتاة ترميه بورود اعتذاراتها رغم مظلوميتها، وتخبره عن الرعشة في جسدها عندما انقطعت الكهرباء لدقائق، وثقتها به، وانها لن تضايقه يوماً...
تنهّد من اعماق كيانه، وهو يغمر رأسي بكلتا يديه. ربّت على كتفي بتؤدّة، وكان ذلك... عقابي الاوّل...
***
     
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024