دفاعاً عن مادية صادق العظم وتاريخه

خلدون النبواني

الأربعاء 2016/11/30
تطالب به مملكة السماء ولا ترضى جمهورية الأرض التنازل عنه، بينما يقرر العظم أن يختار مصيره بنفسه، مختاراً أن يقطع الطريق بينهما وحده بلا وصاية أحد. وليس الطريق بجديد عليه، فهو اختبره مراراً من قبل، ما إن بدأ بالتفلسف.. فما هي الفلسفة إلا تعلُّم الموت؟.. كما يقول أفلاطون على لسان سقراط، في محاورة فيدون حول خلود الروح، مضيفاً أن الفلاسفة الحقيقيين، هم من بين البشر الأقل خوفاً من الموت. وصادق العظم هو أحد الفلاسفة الحقيقيين، فلا نقلقن عليه إذن من مواجهة الموت. 

لكن، هل الحديث عن خلود الروح عند أفلاطون، مقدمة مناسبة للدفاع عن مادية صادق العظم وتاريخه؟ نعم. لأن مادية صادق العظم لم تكن بسيطة، تتموضع كمقابل أنطولوجيّ مقابل الروح أو العقل أو المثالية الخ من هذه الثنائيات الميتافيزيقية غير المتناقضة أو المتقابلة أصلاً كما يعتقد تاريخ الميتافيزيقا. من دون أن يكون أفلاطون فيلسوفه المفضل، يستعير العظم من هذا الفيلسوف الإغريقي فكرة الجدل والحوار، أو فلنقل إدخال المسرح إلى الفلسفة بجعل الشخصيات تتحاور في ما بينها حول مسائل فلسفية أنطولوجية أو أخلاقية أو جمالية أو منطقية أو سياسية أو قانونية.

يستعير العظم أسلوب أفلاطون المسرحيّ الحواري، مرتين على الأقل. المرة الأولى في حوارية متخيلة سريعة تعود لأيام الستينات من القرن الماضي بعنوان "الشك واليقين عند كيركغارد"، والذي صدر في كتابه "دراسات في الفلسفة الغربية الحديثة" (1966). في هذا الكتاب يضع العظم، الفيلسوف وايتهيد، في حوار افتراضي مع كيركغارد الذي مات العام 1855، أي قبل ست سنوات من ولادة الفيلسوف والمنطقي الإنكليزي. المرة الثانية، وهي الأهم، ستكون في كتابه الأهم فلسفياً، في رأيي، "دفاعاً عن المادية والتاريخ"، حيث يدخل العظم نفسه إلى خشبة المسرح الفلسفية في مواجهة شخصية افتراضية، تحمل اسم "عفيف قيصر". في هذا الكتاب الفلسفي الفريد في اللغة العربية، يعيد العظم الروح إلى محاورات أفلاطون وأسلوبها الجدلي التوليديّ، ويمكن القول إن كتاب العظم هذا هو كتاب أفلاطونيّ معكوس، أو فلنقل أنه فيدون معكوس حيث تنتصر المادة على الروح، وسيرورة التاريخ على مطلقية المثل وتعاليها الأنطولوجيّ. 

لكن، لنعد قليلاً إلى مادية العظم، والتي تبدو مؤدلجة جداً ويقينية أكثر من اللازم، في كتابه المهم ذاك، وفي أعمال فلسفية أخرى مهمة مثل دراسته حول حدسي الزمان والمكان عند كانط، أو دراسته لنقائض العقل المحض عند هذا الفيلسوف الألماني، والتي اعتمد فيها العظم المنهج التاريخي الماركسي. ولنلاحظ أن ماديته تسكنها الروح والحركة والحيوية. مادية تُذكّرنا برفض ماركس لمادية فيورباخ الثابتة الجامدة أو شبه الميتة. سبق وانتقدتُ ماركسية العظم، أذ اعتبرتُها متصلبة تجاه ماركس الذي يبدو في "دفاعاً عن المادية والتاريخ"، وكأنه محور الفلسفة، يقسمها إلى ما قبله وما بعده ويمثل المرجعية النهائية لها، فتقاس جميع كل الفلسفات على سريره البروكوستي. لكني سبق أن حاولت، في موضع آخر، إثبات أن مادية العظم على العموم مخترقة بالروح.

لنتذكر إذن أن هذا المفكر الاستثنائي اختار الاشتغال على فلسفة برغسون في أطروحة الدكتوراه. لنتذكر أن برغسون هو أحد رواد الفلسفة الحيوية والطاقة الروحيّة والفكر والمتحرك والتطور الخلاق، وليس عبثاً أن يختاره العظم الشاب كموضوع لأطروحته. تتجلى روح مادية العظم أيضاً في مقارباته الأدبية الأنيقة لـ"مأساة إبليس" ولرواية "آيات شيطانية" لسلمان رشدي. أقول هذا، لا لأسلخ عن العظم قناعاته الماركسية المادية التي دافع عنها طويلاً، إنما لأؤكد بأن أحد أسباب قوة العظم الفلسفية يكمن في روحيتها وفكرها المتحرك الخلاق، لا في أيديولوجية ثابتة قارّة لا تتحرك ولا تتغير ولا تتطور وتتجاوز نفسها. إنها مادية حيوية قارَع فيها العظم أوهامنا القارّة وخرافاتنا الحاكمة لنا والباعثة لعبوديتنا، أو، كما يقول ماركس في بداية "رأس المال"، إنه وخلافاً لبرسيه، كان يحتاج أن يلج الضباب لكي يبرهن عدم وجود وحوش خرافية وألغاز ما بعد طبيعية في الواقع.

تتجلى أصالة العظم واتساق فكره مع نفسه في موقفه من الثورة السوريّة. لا يمكن لماركسي حقيقي ألا يقف مع الثورة ضد الظلم الاجتماعي والفرز الطبقي والتعالي الهرمي المصطنع والقوة الجائرة والديكتاتورية ذات القبضة الفولاذية. على خلاف الكثيرين من المثقفين المزيفين الذين بانت عوراتهم زمن الثورة، والذين كانوا يتغنون بالحداثة والثورة وضرورة التغيير، ثم انقلبوا إلى مواقعهم الأكثر بدائية وطائفية عندما حان موعد التاريخ مع الثورة والتغيير. بغض النظر عن مآلات الثورة اليوم في سوريا، وتداعيات الربيع العربي، إلا أن اتخاذ موقفٍ شجاع مما يحدث كشف ويكشف معدن المثقفين، وأبان لنا أصالة العظم ومعدنه الصافي. ولهذا، وبعد دفاعي عن مادية العظم، لا بد لي من الدفاع عن تاريخه أمام حملات التشويه المستعرة ضده. 

بكل أسف، تقترب اليوم حياة المفكر السوري صادق جلال العظم، المادية، من نهايتها، لكن من دون أن تنهي معها روح فلسفته وأفكاره ومواقفه، ومن دون أن تقفل صفحة تاريخه، بل لتخلدها. كأي شخصية عامة مهمة، يثير مرض العظم الذي ابتدأ بتشخيص كتلة سرطانية في الرأس، ثم العملية الجراحية غير الناجحة لإستئصالها، الكثير من القال والقيل والإشاعات في صفحات التواصل الاجتماعي. منذ أكثر من أسبوع، تتوالى نعوات وشائعات موت العظم ورحيله، بينما هو لا يزال في المستشفى، لم يفارق الحياة، ولم تتخلّ هي عنه. في الرحيل، يتكثف الحضور ويتولى كثيرون مهمة "منكر ونكير" قبل حتى إعلان الوفاة. ولعل صادق العظم، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في حياته، قادرٌ أيضاً، لأهميته، على أن يشغلهم ويملأ يومياتهم بخبر رحيله.

والمفارقة الأهم التي تطاول العظم تتمثل في تهمتين متناقضتين، تنشغل الأولى في اتهامه بالإلحاد، بينما تتولى الثانية نعته بالسُّنيّ والإسلاميّ أو حتى الداعشيّ. وفي حين صدرت وتصدر التُّهمُ الأولى عن متعصبين دينيين لم يجدوا في مواجهة معاول العظم الفكرية الهادمة لقناعاتهم، سوى التكفير والفتاوى وهدر الدم والشيطنة، تصدر التهمة الأخرى عن أشخاص لا يقلون تعصباً وعماءً عن الفئة الأولى، وهم وإن لبسوا الثياب المدنية وربطات العنق إلا أنهم يخفون تحتها رشاشات وحذاءً عسكرياً وأسلحة روسيّة. وإذ تُمثل الفئة الأولى، وسأسميها "جماعة منكر"، حشوداً من المكفّرين أصحاب الذقون الطويلة والأفكار المتحجِّرة وحُرّاس الماضي وأعداء الحداثة، فإن الجماعة الثانية "جماعة نكير"، تتمثل في مُدّعي الحداثة ومناصري الثورات نظرياً، ثم المنقلبين على أعقابهم والمتمسكين بطوائفهم وديكتاتورهم، وإن أنكروا ذلك. وإن يكن العظم قد تبنى التهمة الأولى، ولم يتنصل منها حتى هذه اللحظة، فإن الفئة الثانية التي تتهم العظم بعودته إلى حضن الإسلام السنيّ الوهابيّ وتصالحه مع السلفيين والإخوان، ينسون أن العظم لم يغير إلى اليوم موقفه من الوجود والعدم، حتى وهو في أمسّ الحاجة إلى عون روحيّ خارجيّ.

نعم، صدرت عن العظم بعض العبارات التي يمكن أن تُفسّر ـ من قِبل من يحب أن يصطاد في الماء العكر ويتصيد أدنى دليل ليبرر جبنه الشخصي وموقفه المعادي للشعب – بطريقة مُحرّفة. وقد تأكدتُ من موقفه العلماني الذي يحلم بسوريا حرة عادلة علمانية، لكل أهلها، خلال زيارتي الأخيرة له في برلين. فقد كان أول شخص فكرتُ بالاتصال به حين أمضيت أسبوعين في ألمانيا، نهاية شهر آب الماضي. ما إن عرف أني هناك حتى دعاني إلى بيته، وبالفعل لم اتأخر بالذهاب إليه برفقة اخي ودليلي مناف. في بيته، مكان إقامته في ألمانيا، ما ان تدخل الممر حتى تجد نفسك في ساحة مفتوحة بجنينة صغيرة، تذكرك مباشرة بالبيت الدمشقي القديم. أخذني معانقاً بالأحضان كالعادة، وفي صالون الاستقبال الصغير جلست محاطاً بالتاريخ: صادق العظم ومؤلفاته وقد ترجم معظمها إلى لغات عديدة، ثم صُوره وحفلات تكريمه والجوائز العالمية التي حازها.

جلستُ معه مبتدئاً بالسؤال عن صحته ووضعه وجديده، ثم انتقلنا مباشرة بلا مقدمات إلى الجرح السوري، فاتفقنا كثيراً واختلفنا قليلاً، قبل أن يوحدنا الألم. وما إن سألني هو عن جديدي، حتى خضنا في نقاشات فلسفية محضة، جلس معنا فيها جون لوك وكانط وماركس وهيوم وسارتر وادورنو وفوكو ودريدا. كان لقاؤنا ذاك هو المرة الأولى التي نجتمع فيها بعد مشاركتي في ملف حوله، في مجلة "نزوى" العُمانية، وكانت مشاركتي تلك قد أثارته، فتبادلنا على اثرها مجموعة من الرسائل الإلكترونية. هذا، وقد كنتُ دعيت مع العظم، منذ ثلاث سنوات، تقريباً إلى الإجابة على أسئلة طرحتها علينا المجلة الفرنسية/ الألمانية Philosophie Magazine وكان حوارنا محور العدد بعنوان "فيلسوفان سوريان يناقشان الوضع في سوريا"، وقد صدرت باللغتين الفرنسية والألمانية. على خلاف الكثيرين، لا يأتي صادق العظم على ذكر الأصدقاء والمعارف بالسوء، حتى أولئك الذين ناصبوه العداء نتيجة موقفه المساند للثورة السورية.

في زيارتي الثانية له، قبل مغادرتي ألمانيا، اعتذرت منه بعد ساعتين مليئتين بالنقاش والود، لأني يجب أن أقضي بضعة ساعات مع أهلي قبل السفر. حضنني بقوة وأنا أودعه متسائلاً: هل ستكون المرة الأخيرة؟... قلت له: "سنلتقي من جديد بلا شك". وقال لي عندما هممتُ بالمغادرة: "إبقَ، لا تذهب"... وكنت اقول له في نفسي متوسلاً: "إبقَ، لا تذهب". وتركته، وتركت وراءنا مشاريع معلقة، كتأليف كتاب حواري مشترك بيني وبينه عن الفلسفة الحديثة والمعاصرة... 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024