"الشرّ الأوسط": الصراع مع إسرائيل.. تبسيط أم كوميديا سوداء؟

منى مرعي

الإثنين 2019/03/11
قدّم جو قديح عمله "الشرّ الأوسط" العام 2003 للمرة الأولى في مسرح لاماما التجريبي. وتعود فكرة العرض زمنياً الى العام 2001 حينما زار قديح، ايلين ستيوارت في نيويورك، وكانت أول من استمع الى فكرته بعد حديثٍ وجداني عن أحوال هذا العالم والمخيمات الفلسطينية. منذ ذلك اللقاء، حجز قديح مسرح لاماما لموسم 2003.

عندما عاد الى بيروت انكب على كتابة النص باللغة الإنكليزية، وعاونه في ذلك كل من مارك قديح وايلي كرم. لعب الأدوار الثلاثة الأساسية آنذاك كل من جاك مارون، ايلي كرم وماريو باسيل. العام 2008، تولى قديح اقتباس العرض الى العربية بهدف تقديمه في بيروت. وفقاً لقديح، لم يأخذ العمل حقه كما يجب بسبب بعض المناوشات المحلية، إذ وقعت أحداث كنيسة مارمخايل، كما أنه تعرّض لأكثر من تهديد بسبب العرض، حتى في أميركا تعرضّ لضغوطا معينة، ما أدى الى وقف العرض بعد استمراره ثلاثة أشهر في لبنان.

اليوم يقدّم قديح "الشرّ الأوسط" في نسخته الثالثة لجمهور مسرح "مونو" - بيروت. من الممكن تصنيف العرض بأنه كوميديا سوداء، تجمع ثلاث شخصيات رئيسة، تمثل كل منها طرفاً أساسياً في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث تجتمع الأديان السماوية الثلاثة. يجسد بيار شماسيان دور الرجل المسيحي، مع إضافة اللهجة الأرمنية على الشخصية، ويؤدي أنطوان بلابان دور الرجل اليهودي، في حين قدّم طلال الجردي شخصية الفلسطيني المسلم. في قالب كاريكاتوري، تمتثل هذه الشخصيات على الخشبة إثر عملية بيع أرضٍ لن تكتمل بسبب حادث سقوط جثة قبيل إنهاء الصفقة. بائع الأرض هو المسلم الفلسطيني، بينما الوسيط هو المسيحي الذي وعد نفسه بعمولة 10%، والشاري هو اليهودي. البيع لن يتم بسبب سقوط الجثة بشكل مفاجئ، بينما يبدو واضحاً تحكّم امرأة اميركية المنشأ (سولانج تراك) بسياق الأحداث. بعد وقوع الجثة لن تتبدل الأحداث كثيراً، وسيبقى العرض مفتوحاً أمام جدالات تدور حول المدار ذاته: تجاذب كل طرف من هذه الأطراف نحو اثبات وجوده الديني، والجثة حاضرة بشكل أساسي طوال العرض، إذ حصل الخلاف على خلفية انتمائها، وتصارعت الشخصيات الثلاث حول طريقة دفنها. ما يدفع المشاهد للتساؤل حول موقع ومعنى هذه الجثة. هل الجثة هي الأرض؟
 
يجد قديح أن عمر هذه المسرحية يتعدّى السبعة آلاف عام، وإن بقيت الحياة ممكنة على هذه الأرض، قد يستمر عرضها لسبعة آلاف عام أخرى من دون أن تفقد الحكاية آنيّتها. فالصراع الفلسطيني الإسرائيلي مرتبط بشكل أو بآخر بصراع الأديان والحضارات النابعة  من الشرق الأوسط، وجلَّ ما تقوم به هو رفض الآخر ونبذه، بدلاً من قبوله أو محبته. قرّر قديح أن يشتغل على تيمته هذه من دون أن يغوص في الحيثيات السياسية للصراع الفلسطيني/الإسرائيلي: أراد أن يكون طرحه "واضحاً ومبهماً في الوقت نفسه"، على حد قوله. لم يسمّ أياً من شخصياته، التي سعى الى تنميطها وإلى تقديمها بشكل كاريكاتوري رمزي من دون أن يغوص في أي أبعاد بسيكولوجية... أو سياسية محدّدة.

حاول قديح قدر الإمكان ألا ينحاز لأي شخصية من الشخصيات خلال طرحه للشر الأوسط، وفي هذا النوع من الأعمال الكوميدية يكتفي المخرج بالإشارة الى الأشياء بشكل رمزي وسريع، اذ يفضّل ألا يدفع الجمهور الى التفكير والتحليل خلال زمن العرض، محبذاً أن تكون تلك مهمّة ما بعد العرض. كما أراد أن يتوجه بنصه الى جمهور "كوسموبوليتي"، وليس لجمهور أميركي أو لبناني صرف، وفضّل أن يركز على إيقاع العرض وعلى أداء شخصياته: بين العام 2003 و2019، بدّل قديح ممثليه (باستثناء أنطوان بلابان الذي بقي وجوده المحبّب ثابتاً منذ العام 2008). وفي كل مرة، كان يطلب قديح من ممثليه أن يساهموا في وضع إضافاتهم على النص الأصلي مع الحفاظ على جوهر الحكاية. وليس مستغرباً في هذه الحالة دخول جبل نفايات برج حمود الى عرض 2019 بحنكة بيار شماسيان، التي تضاهيها براعة طلال الجردي في تجسيد الرجل الفلسطيني بعنايةٍ لم توفرّ أي اجتهاد أو تنويع.

باستثناء مشهد أبو ماهر، قُصِد لهذا العرض أن يكون ممتعاً إلى حد قد يراه البعض مغالياً في تقديم طرحٍ تبسيطي لقضية لها قدسيتها عند كثيرين. بعد عرض بيروت، سيتم تقديم هذا العرض في تونس، وهنا يُطرَح تساؤل: كيف سيتلقى جمهور عربي – أكان تونسياً أو غير ذلك- عرضاً حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يقدّم وجهة نظر محايدة حول قضية عمرها 71 عاماً ولا لبس فيها حول مواقع الضحية والجلاد؟ هل ستُقبَل الكوميديا السوداء هنا كما هي – بكل ما تكتنف من ترميز أو تبسيط مقصود ومفتعل أحياناً- من دون أن تُحمَّل كل هذا المخزون الأيديولوجي والفكري، الذي لا يمكن نزعه بسهولة عن الذاكرة الجماعية؟ يسمي قديح هذا الصراع: فلسطيني اسرائيلي، بينما ما هو متعارِف على تسميته هو الصراع العربي الاسرائيلي. ولربما هنا نقطة الجدل الأولى التي سيواجهها قديح.

في معرض حديثه، يقول قديح إن هنالك تغيراً في سلوك الجمهور اللبناني منذ عرضه الأول في بيروت حتى تاريخ اليوم: في عرض 2008، كان يلمس ارتباكاً ونفوراً لدى الجمهور لدى دخول الشخصية اليهودية. اليوم، مع انتشار وسائل التكنولوجيا والتواصل الإجتماعي، باتت كل الأفكار التي كانت في السابق نوعاً ما محرّمة أو مستهجنة، أكثر إتاحةً... فهل ينطبق الأمر على العالم العربي، خصوصاً مع إضافة عامل الأزمات الراهنة، وما رتبّه الربيع العربي من مآسٍ عربية جديدة؟
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024