من الإجبار إلى العشق.. في بحر اللغة العربيّة

هيثم حسين

الإثنين 2017/12/18

 

كثيراً ما أتعرّض لسؤال الكتابة واللغة، وعن كوني كرديّاً يكتب بالعربيّة، بأيّ لغة أفكّر حين أكتب؟ وكيف أنسج عوالمي الكرديّة بالعربيّة؟ وما إن كنت أترجم ما يدور في خلدي بالكرديّة إلى العربيّة أم لا..؟ بالإضافة إلى أسئلة عن اللغة والهويّة والانتماء الثقافيّ والحضاريّ.

مع دخولي إلى الصفّ الأوّل في المدرسة، انصدمت أنّني يجب أن أترك لغتي الكرديّة خلف أبواب المدرسة، وأبدأ بتعلّم لغة جديدة؛ أبدأ بتعلّم اللغة العربية التي كانت اللغة الرسمية الوحيدة التي يجب التكلّم بها في الدوائر الرسميّة، وفي المدارس، وقد كانت محنة حقيقيّة بالنسبة إليّ حينها. وأعتقد أنّ معظم أبناء جيلي عانوا المر نفسه مع اللغة العربيّة بداية.

كان تأثير التلفزيون في منتصف الثمانينيّات محدوداً علينا، وكان عالمنا برّياً وبسيطاً في مختلف نواحيه، كنّا نمضي معظم أوقاتنا خارج البيت، نلعب في الشارع الترابيّ، أو نلهو بين السهول والوديان المحيطة، نصطاد العصافير أو نشكّل عصابات طفوليّة لنغير على حارات أخرى كنّا نضعها في خانة الأعداء.

لم تكن اللغة العربيّة غريبة بالمطلق علينا، فقد كانت تتردّد على أسماعنا. كان هناك بعض البيوت العربيّة في البلدة، وبخاصّة من موظّفي الدولة، من الشرطة والمخابرات، لذا كانت العربيّة مرتبطة بهم لدينا، نعدّها في لا شعورنا لغة بعيدة قريبة.

لم يكن وعينا الطفوليّ ليفصل بين اللغة التي يتكلّم بها عناصر الشرطة والمخابرات واللغة ككينونة حينها، كانت اللغة العربيّة لغة الدوائر الرسمية، لغة المساجد، لغة مَن يودّ أن يمثّل دوراً مسؤولاً، وقد لعبت السياسات التي طبّقها نظام البعث الشوفينيّ على المناطق الكرديّة أدواراً سلبيّة في تشويه اللغة نفسها، وإنتاج حالات بائسة من الانشطار والضياع وفقدان الهويّة الإنسانيّة.

جاهد بعض من الطامعين في تسلّم مناصب محدودة في البلدة إلى التحدّث باللغة العربيّة في بيوتهم، وكانت لهجاتهم العربيّة مثيرة للسخرية والأسى معاً، ما كان يشوّه اللغتين؛ الكردية والعربية، ويخلق لغة مستهجنة بكلمات ذات رنين منسلخ عن سياق اللفظ المفترض، وذلك في سياق البحث عن موطئ انتهازيّة محتملة، والانسلاخ عن الكرديّة كانتماء وهوية بداية، ثمّ الانسلاخ عن اللغة والتخلّي عنها والتعربش بالعربيّة لإثبات الولاء للنظام، والتأكيد على التبعيّة والتعرّب الطوعيّ.

لعب بعض مدرّسي اللغة العربيّة دوراً كبيراً في دفعي إلى التعلّق بالعربيّة، وذلك من خلال تحبيبي بها، وتحوّلها على ألسنتهم إلى لغة جمال وأدب بعيداً عن لغة التهديد والوعيد. كانت اللغة العربيّة بوّابتي نحو القراءة، فلم نكن نقرأ بالكردية حينها، ناهيك عن عدم وجود كتب كرديّة تلبّي رغباتنا وتطلّعاتنا بالمطالعة والعلم.

دفعني عشق اللغة العربيّة إلى الرغبة في التبحّر في عوالمها، اخترت دراسة اللغة العربيّة من باب عشقي لها، أصبحت مدرّساً للغة العربيّة، وقمت بتدريسها لسنوات – برغم مشقّة التدريس وعدم محبّتي له -، وكنت أحاول دائماً إشعار الطلّاب بالحبّ تجاهها، كنت أبعد عنهم ما كنت أكرهه في مدرّسين سابقين من تقعير وتعقيد وتقييد. لم أكن أتحدّث إلا اللغة الفصيحة في تدريسي، وكنت أوقن أنّ اللهجات تنسف بنية اللغة العلميّة، ولا يمكن شرح العربيّة بلهجة ركيكة أو لغة مشوّهة لا تراعي أبسط القواعد.

حدثت بعض الطرائف معي في رحلتي مع العربيّة، سواء في الدراسة أو التدريس، أو أثناء التنقّل بين المدن والدول. أذكر أنّني تعرّضت في اليوم الأوّل لي في معهد إعداد المدرّسين بالحسكة إلى بهدلة أشبه بإدانة من قبل أحد المدرّسين - أصبح صديقاً لي لاحقاً – كان يسأل الطلّاب عن أسمائهم ومدنهم، فعرّفت بنفسي لافظاً اسمي: "هيسم"، وليس "هيثم"، كما هو مكتوب، وكما يجب أن يلفظ بحرف الثاء. ولأنّ الأحرف اللثويّة غير موجودة في اللغة الكرديّة، فقد كنت معتاداً على اسمي ملفوظاً بالسين وليس بالثاء. وما إن لفظت اسمي بالسين حتّى هاج الأستاذ كمن صعقه تيّار كهربائيّ، شعرت أنّني أجرمت، من دون أن أعرف جرمي، وبدأ يطلق لعنته على اللفظ المشوّه لحرف الثاء، وخيبته باللغة العربيّة ومستقبلها لأنّني سأكون مدرّساً فاشلاً لا يجيد لفظ أحرف اللغة العربيّة. وظلّ يلفظ اسمي بعد سنوات من تلك الحادثة ممازحاً بالسين.

في تركيا أيضاً كان اسمي مشكلة بالنسبة لأقاربي الأكراد هناك، فحرف الثاء لا يلفظ عندهم، وكان لفظ اسمي بالنسبة لهم شاقّاً، لذا كانوا يحرّفونه إلى "هيشم أو هيتم".. وهنا في بريطانيا ما يزال الاسم العربيّ صارخاً، وباعثاً على السؤال عن المعنى، وعن الهويّة والخلفيّة، من ورائه.

كثيراً ما كنت أُسْأَل في دمشق عن جنسيّتي، وما إن كنت عراقيّاً أم لا. أو كان السؤال عن مدينتي العراقية المفترضة، على أساس أنّني بالتأكيد من العراق، وذلك الحكم كان ناجماً عن سماع لهجتي القريبة من اللهجة العراقيّة. إذ أحاول أن ألفظ الحروف العربيّة بصيغتها المفترضة، ولا أحوّل القاف إلى همزة في لفظي كاللهجة الشاميّة أو بعض اللهجات السوريّة الأخرى.

لفظي للأحرف اللثوية - بعد أن تحوّلت عقدة عدم لفظها إلى عقدة لفظها الدائم بصيغتها المفترضة -  كان يوحي بأنّني عراقيّ أحياناً، أو درزيّ أو شاويّ – بحسب الإرجاعات المكانية والبيئية والثقافية الدارجة محلّياً - في أحيان أخرى، ولفظي لحرف القاف كان يوحي لبعضهم أنّني من الساحل السوريّ، أو من أرياف الساحل، كما أنّ اللكنة كانت تنبئ ببعض الثقل، إذ لا تكرج العربية على لساني باللهجة العاميّة كأبنائها، ما كان يثير السؤال عن انتمائي ومكان انحداري.

مفارقات ومواقف أخرى تعرّضت لها في لبنان ومصر والإمارات وأوربا، كانت تدور في فلك السؤال عن المكان والهوية من خلال اللغة، ولأنّني أتحدّث لهجة أقرب ما تكون للغة الفصيحة، فيحار السائل في تحديد المكان، وينشط بالتخمين وإرجاع الدلالات إلى المدن والأماكن المفترضة.

شكّل عشقي للغة العربيّة هوساً في بعض الأحيان، كما شكّل نقطة إقلاق يوميّة لي في تنقّلاتي وأسفاري وتحرّكاتي، فكثيراً ما كانت عيني تصدم بكوارث مقترفة بحقّ اللغة العربيّة. كنت أظلّ مسكوناً بشعور القرف إزاء هذا الجهل المعمّم باللغة وقواعدها. كانت وما تزال هناك حالات متجدّدة من ملاحظة الأخطاء اللغوية الكثيرة المنتشرة، والاستياء منها، ومحاولة تصويبها، وشرح ما يجب أن يكون. كانت اللافتات على المحالّ التجاريّة والإعلانات باعثة على التذمّر والسخط في كثير من الأحيان، لاحتوائها على كثير من الأخطاء اللغويّة النافرة.

انتقل ذاك الهوس إلى تدقيق ما أقرأ من كتب، ودائماً ما أكرّر لنفسي القاعدة الفكريّة التي تقول بأنّ الدرس الأوّل في الفكر يبتدئ بدرس اللغة، ومن فاته درس اللغة فاته الفكر والتفكير. وأؤكّد أنّ على الأديب أنّ يكون متمكّناً من اللغة وقواعدها، كي لا يخونه التعبير، لأنّ اللغة رأس ماله الفعليّ وأداته الأهمّ في عمله الكتابيّ. 

اللغة العربيّة تكرّست في وعيي الطفوليّ كلغة إجباريّة بداية، واحتجت إلى سنوات لأتخفّف من ذاك الشعور، وأتعاطى مع العربيّة كحياة مفعمة بالجمال، والشغف، وذلك بالموازاة مع لغتي الكرديّة، لأحيا في اللغتين ومن خلالهما، لتشكّلا لي رئتين مكمّلتين لبعضهما تتبادلان أدوار الحب والانسجام بعيداً عن الصور التي حاول النظام إلصاقها بالعربيّة أو تقييدها بها.

اللغة العربيّة بالنسبة لي ليست لغة مستعمر أو محتلّ، ونسيت فكرة الإجبار التي لازمتني في بدايات اكتشافي لها، ولا أتعاطى معها كـ"غنيمة حرب" أو غنيمة اضطهاد، أو قيد مفروض بات منشوداً كلغة وفكر، بل هي حياة أعيش بها ومن خلالها، تشكّل حاضنة إنسانيّة، أحرص على فكّ الارتباط بينها وبين أولئك الذين كانوا يجرمون بحقّنا، ويسيئون إلينا بإجبارها علينا، وكأنّ من شأن تعريبنا الإجباريّ؛ الذي لم ينجح، أن يبعدنا عن هويّتنا وكينونتنا وثقافتنا ولغتنا، وعن ذواتنا من خلالها.

فكما أنّني لا أتخيّل نفسي غير قادر على التحدّث بلغتي الأمّ الكرديّة، والاستمتاع بأغاني محمد شيخو ورشيد صوفي، كذلك لا أتخيّل نفسي غير قادر على القراءة والكتابة بالعربيّة، ولا أتخيّل نفسي كذلك غير قادر على الاستمتاع بأغاني فيروز وأم كلثوم، لأنّها لغتي الأمّ كذلك فكراً وعلماً وأدباً وحياة. كلا اللغتين وفضاءاتهما الحياتيّة والتاريخية والحضاريّة والجمالية تهندس تفاصيل حياتي وتبلور هويّتي الأدبيّة والإنسانيّة.

 

 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024