الوَهم كرياضة وطنية

رشا الأطرش

الجمعة 2020/11/13
مئة يوم على انفجار مرفأ بيروت، الجريمة الدولتية الموصوفة والتي تختزل مأساة الفساد والإهمال والزبائنية المتأصلة منذ عقود في السلطة اللبنانية، حيث الكل مسؤول بلا استثناء، ومهما تفاوتت درجة المسؤولية. "كلن يعني كلن". 

وتمر هذه الأيام أيضاً ذكرى سنة على قتل الناشط علاء أبو فخر، وغيره خمسة آخرون على امتداد شهور ثورة تشرين المُجهَضة. ولا تحقيق وصل إلى أي نتيجة، ولا عدالة، ولا شخص في السجن، ولا مسؤول سقط بالمعنى الفعلي والعملي، المعنوي أو السياسي أو القضائي أو غير ذلك.

وقبل الانفجار بنحو السنَة، بدأت الأزمة المالية والاقتصادية غير المسبوقة، وبدأ معها تشبيح المصارف على الناس وإذلالهم في أموالهم، وازدادت ظهورات الشبيحة المُكمّلين في السلسلة الغذائية اللبنانية، وصولاً إلى أصحاب البيوت الذين يلاحقون المستأجرين بالإخلاءات وبطلب دفع الإيجارات بالدولار. وبكل وقاحة يعلن مصرف الإسكان والمصرف المركزي عن قروض لترميم البيوت المنكوبة بانفجار بيروت، ويُشرّع القانون الخطير "لحماية المناطق المتضررة"، ضرباً للمِلكية الفردية وإعلاءً للمعاير الطائفية، بلا أي سياسة تأهيل فعلية. مَن يُحاسَب، ومَن يحاسِب؟ حاكم مصرف لبنان طالعنا مرة أو اثنتين بمؤتمر صحافي من الهراء التقني الكامل، وجمعية المصارف تتمسكَن وتتفرعن في وقت واحد، واللبنانيون ما زالوا في غياهب التجهيل والتعتيم المفضوح. التحقيق فقط مع صحافيين ومدوّنين وناشطين. القصاص في الشارع فقط لمَن كانوا ينزلون للتظاهر.

أما تفاقم مشكلة الكهرباء المنذورة ربما لغياب كامل بعد أسابيع، وانهيار الليرة، والغلاء، وتداعيات التعامل العشوائي مع وباء كورونا، وشح الدواء والكثير من الضروريات، والخطر المحدق بصندوق الضمان الاجتماعي، ورفع الدعم عن السلع الأساسية، والعائلات المهددة بالإخلاء من بيوتها والتي تنحدر -هكذا وبكل يُسر- من طبقة اجتماعية إلى أخرى، كأنها على مزلجة زلِقة... فمسلسل مستمر، و"بنجاح" منقطع النظير.

ورغم الكآبة العميقة والواضحة التي تسيطر على اللبنانيين، ورغم بعض المحاولات الثورية الهزيلة والخجولة لإبقاء المطالب فوق سطح المستنقع النتن، باعتصام أو مسيرة من هنا، ومن هناك متابعة ميدانية بمبادرات صغيرة حالمة لتوثيق الواقع على الأرض بالأرقام والصور والشهادات وحتى بالفن، وهو توثيق لا يبدو أن له جِهة يُرفع إليها فتأخذه على عاتقها... يتجمّد كل شيء، في البُركة الملوثة الآسِنة. كل شيء، إلا الانهيار العميم.

معلوم أن الحالة اللبنانية، اليوم ومنذ قرن، هي حالة استعصاء. السيستم اللبناني، بما هو دولة وشعب وطوائف وعَقد اجتماعي عفِن، هو المشكلة، فيما موجات الرفاه التي لربما شهدناها ذات عَقد أو اثنين تبدو الاستثناء في الرسم البياني والتاريخي، وهذه المرة يرتطم البلد بِقاع جديد، بلا قاع. لكن، ثمة ما هو أكثر.

ثمة وَهمٌ مُستشرٍ، وكلنا متواطئ على صناعته، بأن الحل آت، ولو تأخّر. لعله، من جهة، التفكير بالتمنّي. فمُجرد الإقرار، مثلاً، لمرة حاسمة، بأننا جميعاً خسرنا فعلاً كل مدخراتنا في المصارف، وأننا، إذا استعدنا منها شيئاً، فسيكون منقوصاً بشكل كبير ومُهين واستباحيّ كما هي السرقات في العادة، وأن نَيل فتات مَعجَننا سيكون آجِلاً لسنوات، وهو جنى الأعمار والتعب والكدح وكل حِرمان من كل نوع تحمّلناه كُرمى لشيخوخة كريمة أو بيت سنمتلكه أو جامعة نحلم بإرسال أولادنا إليها.. هذا الإقرار الذَّبحة، كفيل بقتلنا جميعاً، ضربة واحدة.

لسنا في زمن التسعينات الذي تضافرت فيه الظروف لإنجاح رفيق الحريري نجاحاً قصير الأمد، نسدّد فاتورته اليوم من بين ما نسدد، في السياسة والسيادة والمال والاقتصاد. المبادرة الفرنسية صارت تلزمها مبادرة إنقاذ. والحكومة على الطريقة المافيوية المعهودة. ولا يسعها، وهي ما هي، أن تُنجز، هذا إن تشكّلت. الخليج العربي ما عادت طفرته هي نفسها. وإن بقي منها شيء، فلأجندات مختلفة تماماً عما يحلم به اللبناني الذي يخسر مدخرات ويسحب ابنه من المدرسة ويخشى فاتورة المرض أكثر من المرض نفسه. أما أوروبا وأميركا، ففيهما ما يكفيهما من كورونا ومشاكل اقتصاد وسياسة داخلية.. وإرهاب.

الوعد بمؤتمر للبنان تُعقَد عليه الآمال؟ ربما. بحجّة النفط الموعود وردع تدفق اللاجئين. لكن بِكَم؟ كم مليوناً وكم ملياراً؟ فقط للحفاظ على النَّفَس الأخير الباقي وإغاثة الأكثر عوزاً؟ أم لإعادة عقارب الساعة كلها بضع سنوات للوراء؟ وإلى متى الدعم، وبأي شروط؟ ومَن يحقق الشروط، وكيف؟ هذه أسئلة كلنا يتحاشى مواجهتها. أسئلة تمضغ العقل وتبصقه.

وفوق هذا كله، اللبناني شاطر، كيفما رَميتَه، وقَع واقفاً. وترجمة هذا الكليشيه، الذي قد لا يكون كذلك، هو التأقلم. التأقلم مع تأمين كفاف اليوم، وإيجاد الحلول الموضعية المُسكّنة، وأحياناً المواربة، لمشاكل مزمنة وخطيرة ومميتة. اللبناني معتاد على حل من اثنين، أو بالأحرى هذه هي ثقافته الأزماتيّة: الهجرة، أو الخلاص الآتي "لا محالة" من الخارج، لأن لبنان على رأسه ريشة، جوهرة جيوسياسية لا يتركها العالم لمصيرها.

الخلاص، تلخّصه الأسئلة – المعضلات أعلاه، واللبناني يرفض التصديق. أما الهجرة، فعلى قدم وساق، بالآلاف، وربما بعشرات ومئات الآلاف، لمن استطاع إليها سبيلاً. كلمة "كندا" تتردد في الشوارع أكثر من "مرحبا". يكفي كنموذج صغير، تحقيق "رويترز" الأخير، حيث يتحدث نقيب الأطباء عن رحيل 400 طبيب، حتى الآن هذا العام، فضلاً عن أساتذة الجامعة وسائر الكفاءات، شباباً وعائلات. الطبقتان العليا والوسطى، ما لم تكن من أوليغارشيا السلطة المستفيدة، تصمد مؤقتاً إلى أن تستسلم "لقدرها" بالسقوط إلى أسفل السلّم، أو توضب حقائبها. في إمكانها أن تفعل ذلك. الفقراء يأكل بعضهم بعضاً، يموتون في أرضهم أو في عرض البحر، أو يحترفون الجريمة، الجنائية أو الحزبية أو الطائفية.
ويبقى السؤال الذي لا يحيّر أحداً: من أين يأتي اللبناني بهذا اليقين بأن حلاً ما سيأتي؟
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024